Friday, August 25, 2017

الفقه المريخي


وها هي اجراس الحرب تدق … لم يكن الهرب يوما خيارا متاحا ، حتى ولو تعامينا عن الحقيقة التي يصم صراخها الآذان

ان الأفكار التي نتبرأ منها ونحاربها اليوم هي التي كنا نتبناها بالأمس ، ارضعناها في مساجدنا وربيناها في مدارسنا ، حتى كبرت وتغلغلت في كل شيء … في الشوارع وفي الملاعب ، في المسارح والمقاهي ، في خطاب الإعلام وقرارات المحاكم ، في سياسة الدولة وتعليمات الجيش والشرطة … وحين انقلب السحر على الساحر ، وصار هذا الفكر الذي سيطرنا به على الآخرين دهورا اكبر من لجام رجال الدين … اذ انتج هذا الفكر رجال دين يخصونه ويجعلونه سلطانا على السلطان والها فوق الإله … له عقل يخالف العقول ولا قلب له ليخاطب القلوب ، قلنا : نحن من هذا براء !

انتهى اخي من التدريب العسكري السريع والمكثف ليشارك في الحرب التي يستعر اتونها بين جيش المستعمرة وبعض الجماعات الإسلامية المسلحة ، ودعت أخي الأكبر وهو في كامل عتاده العسكري متجها الى جبهة القتال ، نظرت الى ابي وكلانا يذرف الدموع على اخي الذي قد لا نراه مجددا وسألته : لماذا هذه الحرب ؟



اجلسني ابي على الكرسي وجلس قبالتي ، نظر مطولا في عيني … ولن انسى ما قاله لي ما حييت !

تنهد ابي تنهيدة طويلة ثم قال : في الماضي كانت الحكومات ترسل الجيوش لمحاربة الإرهابيين ولكن كانت منابر المساجد وكلمات رجال الدين تنتج اكثر من ما تقتل طائرات الحلفاء

وها نحن ندفع الثمن ، في مرحلة ما كان من الممكن ان نفوز في هذه الحرب بالكلمة والقلم ، اما الآن فقد استخدمنا كل انواع السلاح ولا زلنا غير قادرين على الفوز او انهاء هذه الحرب اللعينة … الفكرة يمكن ان تحول الأعداء الى حلفاء ، اما القتل فلا ينتج الا المزيد من الأعداء … فلا يمكن ان تنتهج نهج الإبادة لكل من عاداك

بدأت حكايتنا هذه يا ولدي مع بداية الإنسان ، بدأ مع بداية هذا الصراع الذي احسبه جزءا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية … عمودا فقريا للعنة العقل التي تجر ورائها مصائب التفكير التي تأبى الا ان تتنزل على ارض الواقع ، بدأت مع اول من تدين ومع اول من الحد وليس مع بداية الحرب العالمية الثالثة كما يزعم المؤرخون

مأسآتنا اننا قررنا ان نختلف وبدأنا الإختلاف قبل نحدد كيف نختلف وكيف ندير اختلافنا وما هو مصير المخالف ، قبل ان نثبت معاييرنا للخطأ والصواب صادرنا حق غيرنا ان يرتكب ما نراه خطأ حتى ولو عنى هذا ان نمنع الآخر ان يعيش الا بما نرتضي ، حتى لو عنى هذا ان نرتكب ابشع انواع الديكتاتورية بإسم تحقيق الحق … حتى لو عنى هذا ان نقتل التغيير في مهده وان يكون مصير الأقليات هو الزوال وان يكون الصوت الأعلى هو صوت القوة ، سواء كانت قوة السلاح او قوة الأغلبية او اي قوة تحقق مبتغانا ولا مكان للمباديء او القيم …

ان فكرنا كان يحمل جذور النفاق والوصولية منذ نشأ ما يسمى بالإسلام السياسي ، كان المسلمون في الأقليات كانوا مثالا للإسلام المكي من رحمة وتسامح وتعايش وكان لسان حالهم انه لا يقدر القوة ويحترمها الا من كان مستضعفا وان الأقلية حين تتحول الى أغلبية لن تستغل عدديتها اذ كانت اقلية في يوم ما .

وفي الجانب الآخر عند الدول صاحبة الأغلبيات المسلمة كان الإسلام المكي قد انتهى وهاجر فيه الفكر الإسلامي الى ارض له فيها الأغلبية والسلطة ، وكما انقلب حال الإسلام في بدايته انقلب مرة اخرى بين الاقليات والاغلبيات المسلمة … فعادت دعاوي الجهاد والحدود والولاء والبراء والتكفير ومحاربة المبتدعين والزنادقة ، واحتار ارباب الإرهاب والإجرام بإسم الإسلام في تسليط سيوفهم ورشاشاتهم على كفار الداخل اولا ام على كفار الخارج !

ووسط هذه الصورة شديدة التباين ضاع الإسلام بين دعاة الرحمة وبين دعاة العذاب ، بين صناديق الإقتراع والبراميل المتفجرة ، بين لكم دينكم ولي دين وبين من بدل دينه فأقتلوه …

لم تكن دعاوى الإنسانية والتعايش لها قيمة وسط التاريخ الدموي بين الأديان ، بين الشرق والغرب ، وبين صراع كل مطلق للقضاء على ما سواه … فالمسلمون الذين يشجبون ويستنكرون احتلال فلسطين والتنقيب تحت المسجد الأقصى لا زالوا يطربون حين يقرأون في التاريخ الإسلامي عن كنائس تم تحويلها الى مساجد وعن كفار دفعوا الجزية وهم صاغرون ، يرقص قلبنا طربا ونحن نسمع عن الجماعات المسلحة حطمت اثآرا وتماثيل للكفار وننسى تمثال مريم ام النور وهي تحمل يسوع عليه السلام كان يوما ما داخل الكعبة …

كان الغرب الذي بدأ الإحتلال والإضطهاد سواء بإسم الإمبراطوريات او الإنسان المتفوق او الصليب هو نفسه من بدأ فيه عصر الأنوار وفلسفة التسامح ، ولكن حدث هذا بعد ان تغيرت خارطة الكوكب وقسمت الثورات الصناعية والتكنولوجية العالم الى منتجين ومستهلكين ، الى عامل يستخرج المادة الخام بعرقه ثم يشتريها ثانية بأغلى الأثمان والى تاجر يتاجر بعرقه ويبيع له حقه ليزداد التاجر غنى ويزداد العامل فقرا ، الى دول تصنع المفاعلات النووية والى دول هي مقابر النفايات النووية … وخلف المنظر الجميل البراق لهذا العالم كان هناك عالم سفلي مظلم هو المحرك الحقيقي لما يحدث على ارض الواقع ، عالم متمثل في اجهزة المخابرات واجندة الحكومات الخفية والأجهزة الإعلامية العميلة … كان العالم الذي يقف ضد مشروع الجهاديين في دولة ارهابية بإسم الإسلام يقف متفرجا على اسرائيل تبني دولة ارهابية بإسم ارض المعاد ، لأن اسرائيل تنتج ٦٠٪ من سلاح العالم فما فائدة الجهاديين ؟

لم يستطع الإنسان ان ينسى ماضيه ليعيش بسلام في حاضره ، وهذه الأحقاد والمرارات تغلغت في الجينات وصارت تورث جيلا بعد جيل … فتجد احدهم مستعد لقتل شخص ما لأن جده كان محتلا او هدم دار عبادة ، وصار الماضي ذريعة لإجتراره وتكرار كل مآسيه .

كانت الحرب ضد الإرهاب محكوما عليها بالفشل في ظل عدالة ظالمة ، في ظل قوي لا يريد ان يتراجع عن ظلمه وبين ضعيف يحلم بأن يكون قوي الغد وان يصبح ظالما مستبدا ، كانت طائرات الحلفاء تقصف الإرهابيين نهارا وتشترس منهم النفط ليلا … كان الوضع في عالمنا يجعل الموت مع الإرهابيين اقصر طريقة للوصول الى الجنة بعد ان استحالت الحياة الكريمة في الأوطان وصار جحيم الأرض ثمن جنة السماء ، وكان العامل الخفي الذي لم يحسب له احد حسابا ان التطرف لا يستثني احدا … التطرف تجده وسط الغني والفقير والجاهل والمتعلم والشرقي والغربي ، فكر يقوم على اساس الغرور والإستعلاء … وهذا ما جعل الفئات التي تنضم للإرهابيين تختلف وتتنوع يوما بعد يوما . كان تجار الموت الذين يمدون الإرهابيين بالسلاح يمنحونهم فقط ما يكفي لتظل الحرب قائمة دون ان ينتصر طرف على طرف … فهؤلاء هم اثرياء الحرب

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان وتملك الإرهابيون مختلف انواع الأسلحة الكيماوية والنووية ، ومع ثقافة الإستشهاد وان هذا العالم لا بد من تدميره ليبنى على انقاضه عالم جديد لم يكن هناك منتصر سوى الموت ولا منهزم سوى الحياة … وكيف السبيل الى تفاهم مع من يريد ان يقتلك ليدخل الجنة او ان يموت ليدخل الجنة ؟ كيف الوساطة بين من يرون على ارض مسجدا ومن يرون عليها هيكلا ؟ كيف يسمع صوت العقل والمنطق وسط اصوات القنابل ؟ وما الفرق بين المسجد والكنيسة والمعبد والهيكل الوثني ان كانت كلها تزهق الأرواح وتريق الدماء وتقدم الإنسان قربانا ؟

اختلفت اطراف المعادلة تماما بعد ان صار الإرهابيون يستخدمون اسلحة كيماوية ونووية وهم يعلمون ان المنابر ستنجب من يخلفونهم ، ازدادات رقعة المناطق المتأثرة بالحرب وصار الإشكال عويصا وازدادت الحلول يأسا وتطرفا … صار احدهم بدم بارد يضغط على زر ليطلق صاروخا نوويا ، فيبيد به رجالا ونساء واطفالا وبيوتا ودور عبادة ومسارح ومتاحف وتاريخا وحضارة بأكملها لكي يدخل الجنة او لتنتهي الحرب ، وينسى ان شخص ما في مكان ما سيرد له الجميل حتى ولو كان لأحفاده … فقد ابتلي هذا الجنس البشري بمرتكبي جرائم يتكلمون بإسم الإله والعدالة والوطنية ولا يجرون على غيرهم الا الويلات .

وبعد ان استمرت هذه الحرب الضروس عددا من سنين بدأ كوكب الأرض يلفظ انفاسه الأخيرة ، نضبت خيراته وتلوثت مياهه وزحف التصحر حتى عم ارجاء الأرض وانقرضت سلالات عدة وذاب جليد القطبين واستفحل الإحتباس الحراري ، صار المال مجرد ورق ملون ولم يعد لأي شيء قيمة وبدأت المجتمعات تنحل وصار الإجرام هو الوسيلة الوحيدة للبقاء وعاد الإنسان الى ما قبل الحضارة … الإنسان الذي يعاني من ويلات الحربين ، الحرب الدينية والحرب على الإرهاب صار يعاني ايضا من الفيضانات والزلازل والبراكين والقحط … وكأن الأرض التي احتضنت الإنسان منذ الأزل تلفظه عقابا على عقوقه وتنتحر كلها له ولبقاءه على سطحها .

وبينما كنا نناقش الإعجاز العلمي في التداوي ببول البعير ونبحث عن طرق لإستخراج ادوية وعقاقير من اجنحة الذباب كانوا قد بنوا مدنا ومستعمرات على سطح كواكب اخرى ، واستعد الإنسان ليودع الأرض وينتقل الى كوكب المريخ … كنت طفلا وقتها يا ولدي حين انتقلنا الى هنا واستطعتنا ان نأتي الى هنا لأنني كنت اعمل في وكالة ناسا للفضاء واحمل الجنسية الأمريكية ولم يكن هناك شك في انتهائي لأي تنظيم ارهابي .

كنت احسب انت انتقال الإنسان الى كوكب المريخ سيكون صفحة جديدة في تاريخ البشرية وانعتاقا من ماضينا البشع ولكن اكتشفت مع مرور الأيام انني كنت مخطئا … كانت كل الظروف جاهزة للحياة المستقرة على سطح المريخ ، وجدنا اجابة على سؤال كيف نعيش ولكن لم نجد اجابة على سؤال : كيف نتدين ؟ حتى ظهر ما يعرف بالفقه المريخي .

بدأت ظاهرة الفقه المريخي مع الفتاوي التي صاحبت خبر بداية الإنتقال الى المريخ ، بعض الفتاوي كانت بحرمانية الإنتقال الى المريخ من الفقهاء الذين يجعلون الدين مرادفا للموت … فقالوا ان مشيئة الله ان تنتهي حياة البشر لتقوم القيامة وان سوء الأحوال على سطح كوكب الأرض تمحيص لذنوبنا وذل وهوان وتحد للكافرين وان اي مسلم ينتقل الى المريخ فقد تحدى مشيئة الله وقد كفر !

واما المتساهلون فكانوا في مأزق اكبر ، ففي الماضي كانت قبلة رائد الفضاء هي كوكب الأرض حتى يعود اليها … اما الآن فموقع الأرض متغير بالنسبة الى المريخ ولا توجد قبلة ثابتة … وقد ظهرت فتاوى جديدة ببناء كبعة جديدة موقعها كموقع الكعبة القديمة في الأرض ! هذا بالإضافة الى اسئلة اخرى كثيرة ليس لها جواب واحد مثل متى نصوم ؟ … بل الأدهى والأمر هو كيف نحج ولا يوجد جبل عرفة ولا منى ولا مزدلفة على سطح المريخ ؟! ولا ننسى مدعي النبوة الذي اعلنوا ان الله اوحى لهم لينقذوا البشرية ولكي لا يفعلوا على المريخ ما فعلوا على الأرض …

ولم يكن هناك على سطح المريخ مسجد اقصى ولا هيكل سليمان ، لا حروب ولا تحالفات ، لأول مرة كان كل البشر سواسية ، وكان الهدف فقط هو نجاة الجنس البشري … ولكن البشر لن يعرفوا السلام طالما ان الإختلاف ليس مسموحا ، طالما ان هناك من يصنف بعض التصرفات خطأ في حق الإله ولا بد ان ينتقم له ، طالما ان هناك من يؤمنون ان هدفهم في الحياة مراقبة دين غيرهم وممارسة الوصاية على المجتمع وجر البشر الى الجنة ولو مقيدين بالسلاسل …

لهذا يا ولدي تطوع اخوك وتدرب ليشارك في تلك الحرب اللعينة التي استطاعت ان تعبر من الأرض الى المريخ ، لأن الهوس الديني مرتبط بالإنسان لا بالزمان والمكان … ضد هؤلاء الذين يؤمنون بأن على كل الدنيا ان تكون كما يريدون او ان تفنى كل الدنيا

لم يكن السؤال هو كيف نعيش …
ولا كيف نتدين …
بل كيف سيتدين غيرنا …
وكيف نجبرهم على ان يتدينوا كما ينبغي … وكما نريد

No comments:

Post a Comment