Tuesday, September 6, 2016

العقل الحداثوي , نيتشة نموذجاً

كانت فكرتي في البداية كتابة مقال عن ما بعد الحداثة , والحداثة وما بعد الحداثة مصطلحات غامضة ومعقدة ولا يستطيع قلم متواضع مثلي أن يحويها في مقال واحد , ولكن الضرورة ملحة جدا للكتابة عن الحداثة وما بعد الحداثة بشكل مبسط خصوصا لمن لم يألفوا هذه المصطلحات والحديث عنها ... فالكهنة الجدد يجعلون الدين تفسيرا لكل شيء واجوبتهم المختصرة على شكل وجبات سريعة هي المتداولة والرائجة الآن , فتجد احدهم لا يعرف متى بدأت حقبة الحداثة وما هي مميزاتها وما هو التغيير الثقافي والإجتماعي والإقتصادي الذي صاحبها ... وفي المقابل يختزل كل التاريخ البشري من قديم وحديث في أن دين الآخرين محرف وإنتفضوا عليه ولكن اخلاقهم هي اخلاق ديني لذا تجدهم قد تطوروا وتقدموا , واما انا فديني ليس محرفا لذا لم انتفض عليه ونحن لم نتمسك بتعاليم ديننا لذا تخلفنا وتقهقرنا ! وتجده راضيا جدا بهذا الإختزال المبتذل لأنه سمعه من الشيخ فلان أو الإسلاموي علان !
إننا حين نتحدث عن الحداثة وما بعدها نتحدث عن حقبة ذات ظروف وعوامل اثرت على البشرية جمعاء , وبما أننا لا نعيش خارج الواقع أو بمعزل عن التاريخ فإن فهم الحداثة وما بعد الحداثة هو حجر اساس في فهم تاريخ الإنسان , ولكن من اين نبدأ ؟ ... فليس لما بعد الحداثة تعريف متفق عليه , بل البعض لا يرى ما بعد الحداثة فترة مستقلة وما هي الا إمتداد للحداثة , وسنبدأ في حديثنا عن ما بعد الحداثة مع المفكر الفرنسي جان فرنسوا ليوتار وهو أحد رواد حركة ما بعد الحداثة في فرنسا .
في الرابع عشر من اكتوبر 1979 نشر الكاتب الصحفي الفرنسي كريستيان دوكان في جريدة لوموند حوارا مع ليوتار وهنا بعض ما جاء فيه :
يرى ليوتار ان الفلسفات التي التي تصف حركة التاريخ انها تسير نحو سيداة طبقة أو جنس أو قومية قد إنتهت وان تفكك المذاهب والنظريات والإتجاهات الفكرية الكبرى وإختفاء الأنساق التي توجه الإنسان في تفكيره هي أهم العناصر التي تميز حالة ما بعد الحداثة , ويحكم ليوتار على كل النظريات العامة في التاريخ على أنها أيديولوجيات وهي مجرد صورة زائفة لا تقابلها حقيقة واقعة . ويضيف ليوتار ان المجتمعات الحديثة التي ظهرت بعد نهاية العصور الوسطى تربط خطاب الصدق والعدل بعد من القصص والحكايات التاريخية الكبرى , وهذا ما ادى الى اعتناق الكثيرين للستالينية ووظهور وإستفحال الحركة الإرهابية وتعرض الرأسمالية لأزمة طاحنة ... فالأزمة ليست أزمة سعر البترول , بل أزمة القصص والحكايات الكبرى .
فما هي أزمة القصص والحكايات الكبرى ؟
يعرف صبحي حديدي في مقال بعنوان (الحديث , الحداثة , وما بعد الحدثة) الحكايات الكبرى بأنها حقائق كونية يفترض أنها مطلقة وقصوى تستخدم لشرعنة مختلف المشاريع السياسية والعلمية . وسأقتبس هنا ما ذكره ف.ريبيه في مقال بعنوان (ما بعد الحداثة كإستمرار نقدي للحداثة) حيث كتب : منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بدأت تظهر العديد من الإنتقادات الخطيرة للحداثة وبخاصة النقد الذي وجهه كارل ماركس في المجال الإجتماعي والسياسي والنقد الذي وجهه نيتشة لمسألة القيم .
سنأخذ من ما ذكره ف.ريبيه إنتقاد نيتشة لمسألة القيم , صحيح أن أفكار ماركس من أهم الأفكار التي غيرت مجرى العالم واثرت في التاريخ ولكن ما فعله نبي القوة نيتشة كان في مجال أشد وعورة وهو مجال القيم والأخلاق , فإن كان ماركس قد إنتقد الرأسمالية ودعى لفكرة ثورية تغير الواقع لتحقيق العدالة فإن نيتشة قد إنتقد اخلاق الديانتين المسيحية واليهودية واتى بفكرة لا يكفي وصفها بأنها ثورية ... بل هي قنبلة تنسف الواقع وتقتلعه من جذوره , وهي فكرة الإنسان الأعلى أو السوبر مان وأن الوصول اليه يتم عن طريق اخلاق السادة لا اخلاق العبيد .
ليس من السهل ابدا ان تنتقد الأخلاق والأعراف السائدة التي تستمد شرعيتها من الأديان والكتب المقدسة , خطوة مجنونة لم يتجرأ أن يخطوها سوى نيتشة ... لم يسبقه قبلها أحد ولم يكررها بعده أحد , فنيتشة يرى أن اخلاق العبيد قد بدأت من آسيا مع اليهود اثناء خضوعهم الطويل الذي جعلهم ضعفاء خانعين لطلب المعونه من الاخرين , وظهرت منها الاخلاق المسيحيه فدعت المسيحيه الى الرحمه والتضحيه والعطف على الضعفاء وهذه الأخلاق في المجتمع التي تغذي ارادة الموت وتحارب ارادة الحياة .
عندما تبدأ القراءة والغوص في غمار الحداثة وما بعد الحداثة ستضيع بين مختلف التحليلات ووجهات النظر والتحقيبات والتمظهرات المختلفة , بين الحركات الفلسفية والحداثة الثقافية والإقتصادية والسياسية والفكرية والثورة الصناعية والتكنولوجية ... ولكن النقطة التي احاول التأسيس لها والتأكيد عليها وهي خلاصة هذا المقال هو مفهوم العقل الحداثوي , اينما ادرت وجهك ستجد حكاية كبرى تبرر واقعك وتشرعن استمراريته ... مثل اتفق جمهور العلماء , او تلقته الأمة بالقبول , أو سيحدث في آخر الزمان كذا وكذا ... إن العقل الحداثوي هو الذي انتفض على هذه الحكايات الكبرى وهو وليد التنوير , وليد حرية التفكير وحرية النقد ... فالعقل هو المرجع والإنسان هو المركز والتاريخ هو الآن .
كثيرا ما تردد علي هذا السؤال: لماذا تقبل بالقانون الوضعي وترفض الشريعة ؟ او حين نتحدث عن الغرب الذي هو ارض الحداثة ومهدها يواجهك الماضويون بإنتقادات لتلك المجتمعات للتبخيس والحط من إنجازاتها وما وصلت إليه , هذه الأسئلة ومثيلاتها نابعة من التعامل مع الحداثة كجامد وبالتالي تصبح المقارنة بين الحداثة وما قبل الحداثة هي مقارنة بين جامد وجامد ... أما ما بعد الحداثة وهنا لا أعنيها كحقبة زمنية بل أعنية كعقلية وطريقة تفكير تنقد الحداثة وتتطورها فهي أكبر دليل على الفرق بين التنويري ورجل الدين , فالتنويري لا يأتي بدين جديد وثوابت جديدة ليستبدل بها القديم ... التنويري في حالة تفكير مستمر ونقد مستمر وتطوير مستمر , وهنا تصبح المقارنة بين العقل الماضوي والعقل الحداثوي هي مقارنة بين جامد يدعي القداسة ومتحرك يسعى نحو الأفضل .
ان تكون ذا عقل حداثوي لا يعني ان تترك فكرة قديمة لتتعصب لفكرة جديدة , لا يعني أن تكون ماركسيا ولا أن تكون نيتشويا ... العقل الحداثوي هو العقل الشكاك الذي لا يصدق بالنظريات والمسلمات , وان صدقها اليوم شكك فيها غدا ... هو العقل الذي لا يبحث عن اجابة للسؤال فحسب بل يغير الفكرة والثقافة التي انتجت السؤال مغيرا ملامحه وطاعناً في وجاهته ... فإن سألت الحداثوي هل أنت م أم ضد ما اتى به الدين فإنه لا يجيب بنعم ولا بلا , بل يجيبك بسؤال : لماذا اتى الدين بما اتى به وكيف اتى به ؟ إن سألته عن موقفه من القيم سألك من أين أتت القيم , إن سألته عن ولاءه للوطن اجابك بسؤال : ما هو الوطن ؟
العقل الحداثوي هو العقل الذي لا يشارك في اللعبة ولكنه يغير قواعدها تماما , لذا حين نتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة في السودان فإننا لا نتكلم عن إستنساخ أحداث تاريخ الحداثة الأوروبي كما هو , بل نتكلم عن طريقة التفكير الشكاكة الباحثة بإستمرار عن الحقيقة التي اسست للحداثة ثم إنتقدتها منتجة ما بعد الحداثة ... طريقة التفكير التي لا تنتج إلا عن عقل حداثوي .
ياسر ضحوي

No comments:

Post a Comment