Tuesday, September 6, 2016

الحركة قبل الحزب

ان الوضع المزري الذي يرزح تحته الفكر الليبرالي في السودان بعد كل هذه السنين من التبشير بالفكر الليبرالي والمحاولات الفاشلة المتكررة لإنشاء احزاب ليبرالية قوية ومؤثرة لهو مدعاة للنظرة المتأنية والنقد الشامل والتصحيح الجاد ، والنقد الذي اعنيه هنا ليس اختلاقا للأعذار وتباكيا على الماضي كما يحلو للبعض ان يقول : قال الإسلاموي وفعل الإسلاموي ... وهنا لا انكر تأثير التضييق والمحاصرة التي يمارسها الإسلامويون ولكني ايضا ارفض ان تعطى مجهوداتهم اكبر من حجمها .
واذا اردنا ان نجيب عن سؤال لماذا فشل الليبرالي وسقط النسبي فريسة سهلة ولقمة سائغة للحكم الديني المطلق فلا بد ان نعيد صياغة السؤال اولا ... كيف نجح ارباب الإسلام السياسي واحكموا قبضتهم على عنق البلاد والعباد ؟
قبل ان تقارع خصمك لا بد ان تدرسه وتعطيه قدره دون استخفاف او تهويل ، فشل الليبرالي حيث نجح الإسلاموي بسبب النظرة المتصابية التي لا ترى ابعد من موطيء القدم مقارنة بالنظرة الواقعية والتفكير البعيد الذي تمتع بهما الإسلاموي قبيل سعيه للسلطة .
الليبرالي عندما اراد التأسيس لسياسية ليبرالية وجد الإجابة في الأحزاب الليبرالية ، ولكن ماذا قبل الأحزاب ؟
الليبرالي يعزو هيمنة الإسلاموي الى التمكين ، ولكن ماذا قبل التمكين ؟
اما الاسلاموي فعندما اراد اقامة الخلافة اسس لسياسة اسلامية وحكم اسلامي، والسياسة الإسلامية تتطلب احزابا اسلامية ، والاحزاب الإسلامية تتطلب حركة اسلامية
ان تمكين الإسلاموي لم يأت نتيجة المحسوبية والفساد والقمع فحسب ، بل اتى وليد الثقافة الإسلاموية التي انتجتها الحركة الإسلامية قبلا ...
حين يسيطر الإسلاموي مستندا على العاطفة الدينية على مناهج المدارس التي تكفر العلمانية وشتى وسائل الإعلام الذي تسبح بحمد الإسلام السياسي ليل نهار ويغير ثقافة المجتمع بما يتوافق مع رؤاه يكون وصوله للسلطة امرا لا مفر منه عاجلا ام اجلا
فالاسلاموي يفوز بالإنتخابات بسبب الثقافة ، يعتقل ويحاكم ويعدم بشرعية الثقافة ، يحرك الجيوش ويشعل الحروب الدينية بمباركة الثقافة .
حتى الصفوة السياسية التي اتت بعد استقلال السودان لم تبذل جهدا في التنوير او في تغيير المفاهيم ، بل تماشت مع الهوى الديني واستغلت الإنتماء الطائفي وعزفت على وتر المشروع الإسلاموعروبي تحقيقا للكسب السريع ، فالعلماني عموما والليبرالي خصوصا يريد ان يزرع بذرته في هذه التربة الفكرية المعادية دون ان يستصلحها ! هذه التربة الثقافية الإسلاموية التي جددت نفسها لأكثر من ربع قرن ولم نحصد منها الا الدمار .
اذا نظرت الليبرالية الا انعكاسها عن ثقافتنا السودانية لوجدت نفسها مشوهة ومبتورة وعرجاء ، لأنكرت نفسها ... فكيف سيقبلها الآخرون ؟ كيف لا وكل من تحدث بإسمها قديما وحديثا هم الإسلامويون ؟ سواء الأصوليون او مدعوا العلمانية ...
مدعي العلمانية حين يتحرك في المساحة التي يسمح بها الإسلاموي ويتقيد بشروطه ويحارب سلطة الإسلاموي بحجة استغلاله للنصوص المقدسة او اساءة فهمها فإنه يؤكد على سلطة النصوص ... فلا جدوى من محاربة الكاهن طالما انك متصالح مع كتبه وافكاره وما يدعو اليه ، وهذا لا يجعلك علمانيا ، بل اسلاميا جديدا ... وما تدعو له ليس حكما علمانيا ، بل حكم اسلامي اكثر تسامحا
فاذا كان الاصلاح الديني بفهمه الناقص الذي تمارسه الاحزاب السياسية ينتج اسلامويين جدد ويعيد انتاج الثقافة الثيوقراطية والحكم الديني ، واذا كان تجاهل الشأن الديني كما تفعل بعض الاحزاب السودانية العلمانية الأخرى ليس حلا لأنه تجاهل لأحد اهم اسس المعضلة ... اذن ما الحل ؟
الحل في يد المثقف اولا لا السياسي ، وهنا لا اعني المثقف الزائف الذي يهادن القناعات الراسخة ويلتف حولها بشعارات رنانة ... بل المثقف النزيه الذي يواجهها وينتهكها ويزحزحها ، المثقف الشجاع المستعد لدفع ضريبة التغيير .
ان مناقشة السلطوية الدينية غير ممكن دون اقتحام الشأن الديني ، ولكن دور المثقف هنا لا يكون ردة فعل تجاه ثقافة الإسلاموي وان يكون المثقف كاهنا بنص قديم وفهم جديد ... بل بأن يخضع المثقف الدين وظاهرة التدين للعقل الناقد ، ان ينشر ثقافة علم اللاهوت وعلم الأديان المقارن ، ان يحاكم العلم الدين كما حاكم الدين العلم .
ان البيئة المعادية للفلسفة والعلوم العقلية هي البيئة المعادية للفكر الليبرالي ، وهذا ما يجعل شعارات مثل عدالة اجتماعية ومساواة جندرية وحقوق اقليات شعارات خاوية لا توجد خلفها ثقافة تدعمها ... لا تجد اي اصداء في نفس المتلقي ... يعتبرها دخيلة مستوردة لا تمت له بصلة ، ويكون حال العلماني سواء كان ايدلوجيا تحولت علمانيته الى دين جديد او ليبراليا كحال مزارع يعد الناس بظل الشجرة وثمارها وقد زرع بذرته في تربة فاسدة .
ان المثقف هو الذي يهيئ الحاضنة الإجتماعية للسياسي ، ان علمنة السياسة لا تكون بالقوانين التي تمنع انشاء احزاب دينية او قوانين ضد التمييز بكل اشكاله ... بل بعلمنة المجتمع وجعله رافضا للحكم الديني .
الزراعة قبل الحصاد واستصلاح التربة قبل الزراعة ، الثقافة قبل السياسة ... والحركة قبل الحزب
ياسر ضحوي

No comments:

Post a Comment