Saturday, July 23, 2016

العقلانية قبل التدين


أعلم أن العنوان سيكون صادما للكثيرين , وأعلم أن رسائل التكفيريين الذين عينوا أنفسهم الحراس الشخصيين للعرش الإلهي ستأتي مكفرة مزندقة مهددة متعودة كما عودوني دائما فليشحذوا اقلامهم وسيوفهم , ولكنها كلمة يجب أن تقال وموقف يجب أن أقف عنده مهما كان الثمن في زمن الكهنة ومثقفي السلطة ومنافقي العامة , فلا مجال للحديث عن الحرية حين يكون الخيار بين الحياة والموت , ولا داعي للدفاع عن العقل حين يحاكم الكاهن العاقل , ولا جدوى من طرح الفكر في مقابر اجتماعات الصفوة .

اهداء

في البدء كنت رافضا للإسلام السياسي , ولكني لم أكن علمانياً صلباً , كنت انادي ببيئة سياسة أكثر تسامحاً ... حتى كان لقائي الأول بكتابات عادل ضاهر في كتابه الأسس الفلسفية للعلمانية , قبل هذا الكتاب كنت ارفض الإسلام السياسي لأسباب إذا إنتفت تنتفي الحوجة للعلمانية وتكون علمانيتي مستندة على اساس هش . أما بعد هذا الكتاب فإنني  لست علمانياً بسبب إشكالات الإسلام السياسي ... بل لأن العلمانية كما يصفها مراد وهبة هي طريقة تفكير , لأن العلمانية هي ما يجب أن يكون , حينها فقط أصبحت علمانيا صلباً .

وبما أننا نطمح لنؤسس للعلمانية والعقلانية والنسبية فإن هذا غير ممكن دون أن ننطلق من العقل , لا يمكن أن ننادي بالعقلانية التي ليست حكراً على أصحاب دين أو ملة دون أن نعرف العقل وأن نتعامل معه ككيان مستقل عن الدين وأن نعرف ما له وما عليه ... فكل ما يحدث في الساحة الثقافية والسياسية الآن هو الحديث عن العقل داخل حدود الدين وليس العكس , وهذا ليس تأسيساً للعقلانية بل هو تأسيس لتدين يدعي العقلانية ليس إلا ... والتسامح والعقل ليسا حكرأ على المسلمين , كما السودان الذي نحلم بإنعتاقه من قبضة الإسلامويين , ليس ملكاً للمسلمين دون سواهم , لذا سأحاول في هذا المقال أن أنتصر للعقل الذي قيده فكر الإسلامويين الشمولي والعلمانيون الذين يتحركون فقط في الحيز الضيق الذي تسمح به فتاوى الكهنة وقناعات العامة . لذا سيكون الجزء الأول من هذا المقال سياحة في كتاب أولية العقل للأستاذ عادل ضاهر .


إن الطرح العقلاني المحايد تجاه العاطفة الدينية الذي يخاطب العقول بشكل مجرد لا بد أن يصطدم عاجلاً أم آجلاً بالنصوص الدينية المقدسة أو بالنقل , وهنا تبرز إشكالية الإختلاف بين العقل والنقل , هذه الإشكالية التي اراها من وجهة نظري الشخصية المتواضعة أحد الأسباب الرئيسية لواقع العالم الإسلامي اليوم , فكثير من الطوائف والتيارات الفكرية الإسلامية قد سحقت بإسم الإنتصار للنصوص المقدسة , ومن اشتغلوا بالفلسلفة على مر التاريخ في العالم الإسلامي واجهوا أبشع مصير تحت ذريعة حماية الدين والمتدينين من هرطقات العقلانيين والمنطقيين . ولو درست الصراع بين العقل والنقل والكتابات التي نتجت عنه ستجد أنها لم تنصف العقل ولم تعطه مكانته المرجوة ... ذلك لأن إستقلال العقل يربطه الإسلامويون دائما بإهانة النص الديني وقداسته , فتجد إبن تيمية في كتابه درء التناقض بين العقل والنقل يثبت أن العقل لا يملك الى الخضوع للنص وهذه نتيجة لا علاقة لها بالعنوان , وتجد إبن رشد حين يقول : لا يمكن أن يعطينا الله عقولا وينزل الينا شرائع تخالفها , وحين يكتب كتابا بعنوان : فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة من إتصال ... تلاحظ أن ابن رشد وغيره يحاولون أن يضفول الشرعية على كتاباتهم وارآئهم بالتأكيد على توافقها مع الدين لكي تلقى القبول .

وهنا سؤال : هل التفكير الحر يتعارض مع قداسة النص الديني ؟ وأجيب : إن الديكتاتورية التي مورست وتمارس بإسم شمولية الإسلام هي التي ضيعت الحدود بين الدين والعقل والدين والعلم , فالتفكير على اساس عقلاني والإستنتاجات المنطقية ليست حكرا على المسلم , يمكنك أن تقبل رأيا أو مخرجات بحث أو دراسة علمية على اساس عقلاني بحت ... أما التفكير الحر إذا إختلف مع ظاهر معنى النصوص المقدسة أو مع فهمها فإن معالجة هذا المأزق أو المعضلة بالنسبة للمؤمن لا تكون بالغاء العقل وقمع التفكير بإسم قداسة النص , قداسة النص لا تأتس بالسيف والسوط , بل تأتي بفتح الأبواب على مصراعيها أمام العقل ليدرس النص ويتفحصه وينتقده ويكون تقديس العقل للنص نتيجة الإقتناع الحر ... وإلا كان التدين وتقديس النص وليد الجهل والخوف والإتباع الأعمى . لذا في هذا المقال سننطلق من العقل ككيان مستقل يتفاعل مع النص الديني والواقع بشكل متفاعل وحر وبناء .

الرد الفلسفي على الإسلامويين

في كتاب أولية العقل لعادل ضاهر فإنه يرد على اربع نقاط رئيسية يستند عليها الإسلامويون على إختلاف أطيافهم سواء كانوا احزابا سياسية أو حركات جهادية أو منظمات ثقافية تهدف الى نشر ثقافة الإسلام السياسي , هذه النقاط هي : أولية النقل على العقل , الإسلام دين ودولة , لا يستطيع الإنسان تدبر أموره دون توجيه الهي , لا إجتهاد موضع النص , ويتضاف اطروحة خامسة لبعض الإسلامويين وهي أن نشوء الدولة الإسلامية والديمقراطية لا يتعارضان في بعض الأوجه .

وإذا كنا سنتعامل مع العقل بإستقلال عن الدين لإثبات اولويته واسبقيته على النقل فيجب أولاً أن نوضح ماذا نعني بالعقل

اسئلة كثيرة تطرح نفسها حين نحاول تعريف ماهية العقل , هل هو ملكة كالنظر ؟ هل هو قوة محركة أم خال من القوة ؟ هل هو منوط بتحديد الغايات أو الوسائل أم كلاهما ؟ ما هي العلاقة بين العقل والعقلانية والمعقولية ؟ هل نعرف مسبقاً ما هو عقلي أم عن طريق الملاحظة أم عن طريق إحساس باطن كالحدس ؟

يبدأ عادل ضاهر بسرد الموقف السائد من العقل وإشكالاته لينطلق منها لموقف سليم من العقل يثبت مرجعيته وأولويته على النقل , نبدأ من التصور الديكاتري للعقل الذي تمتد جذوره في الفلسفة اليونانية الى افلاطون , وهذا التصور يرى العقل على أنه ملكة تمكن الإنسان من ان يعرف ويدرك حقائق معينة بشكل مباشر دون إستدلال , ولكنه يختلف عن ملكة النظر مثلا أن الإنسان يستطيع أن (يستدل) على حقائق معينة من ما يعرفه بشكل مباشر . والإستدلال هنا مقصور على الإستنباط ... فما هو الإستدلال وما هو الإستنباط ؟

الإستدلال هو عملية إستخراج جواب أو نتيجة من معطيات مسبقة , الإستدلال يكون عن طريق الإستنباط أو الإستقراء , الإستنباط هو الإنتقال من قضايا أو مقدمات الى نتائج ... مثال : كل الفواكه لونها أحمر , الموز فاكهة , إذن الموز لونه أحمر ... أما الإستقراء فهو الحكم على الكل بالجزء أو الحكم على الكلي بخصائص اجزاءه , مثال : المعدن أ يتمدد بالحرارة , المعدن ب يتمدد بالحرارة , المعدن ج يتمدد بالحرارة ... إذن المعادن تتمدد بالحرارة

إنطلاقا من التصور الديكارتي للعقل فإن كل ما لا يمكن معرفته بشكل مباشر أو لا يمكن إستدلاله من هذه المعرفة المباشرة فهو ليس شأنا عقلياً , وهذه النظرة للعقل تتخذ من العقل الرياضي انموذجا لها , والنتيجة الوخيمة المترتبة على هذا التصور أنه يجرد العقل من أي وظيفة معيارية , لنشرح ما نعنيه بوظيفة العقل المعيارية , وهنا لا بد أن نتحدث عن مفهوم العلوم المعيارية ليتضح المعنى ... العلوم المعيارية هي العلوم التي تهتم بوضع المعايير والمقاييس التي تحدد ما يجب أن يكون عليه التفكير كعلم المنطق أو السلوك كعلم الأخلاق، أو الذوق الجمالي كعلم الجمال. وقد حلم ديكارت بتأسيس علم أخلاق دقيق وكامل ولكن هذا الحلم بقي حلما لأنه لا يمكن تحويل الأخلاق الى نسق إستنباطي وهذا يؤدي الى إستبعاد الشؤون الأخلاقية والمعيارية ككل من مملكة الشؤون العقلية .

ما هي النظرة الصائبة للعقل من وجهة نظر عادل ضاهر ؟

العقل ليس ملكة كالنظرأو السمع ,  فالإنسان لا يتم تعليمه كيف يرى أو يسمع ولكن يتم تعليمه كيف يتعقل , إذن فالمفهوم الأول للعقلانية هو القدرة على التعقل والمفهوم الثاني هو المفهوم التقويمي الذي نعني به تمثل العقلانية في قدرات معينة مثل الإستدلال والتفسير والتنبؤ والقدرة على التسويغ والتمييز والتحليل والتركيب , وطبعا هذه القدرات تتفاوت من شخص لآخر , ولنضرب مثالا ... عندما نقول أن فلان وفلان كلاهما طبيب فأننا نعني أن كلاهما مؤهلان لممارسة الطب ولكن طبعا قد تختلف مهاراتهما حسب الخبرة , وكذلك عندما نقول أن فلان وفلان عقلانيان أو يمتلكان عقلا فإن كلاهما له القدرة على التعقل وينعكس ذلك على المهارات والمهام العقلانية لكليهما مع مراعاة أنهما يتفاوتان في قدراتهما العقلانية .

وهنا سؤال : هل الموقف المخالف لمستلزمات العقل ينفي العقلانية ؟ قد تصدر مواقف لاعقلانية أو متناقضة من شخص ما ... وصفنا لهذا الموقف بأنه لاعقلاني أو متناقض لا يعني أننا نفينا عن صاحبه العقل كقدرة أو كمفهوم تقويمي , فصاحب هذا الموقف قد يتجنب هكذا مواقف أو يتراجع عنها بالتروي والحرص على سلامة الموقف منطقيا وعقليا .

العقل التعقلي والعقل الأخلاقي

هل يمكن لشخص عقلاني أن يناقض نفسه عامداً متعمداً ؟ لنضرب مثالاً ... شخص إعترف أنه كان موجوداً في مكان ما في زمان ما , وإكتشف أن إعترافه يضعه على قمة مشتبه بهم في جريمة , فقام بالتراجع عن إعترافه ووضح أنه قد خانته الذاكرة وأنه كان موجودا في ذلك المكان في وقت آخر ... خرق هذا الشخص لمبدأ عدم التناقض لا يعد لاعقلانيا , لأن من التعقل أن الشخص يحافظ على مصلحته وخيره على المدى البعيد . ولكن عدم قوله للحقيقة إذا لم يكن مخالفاً للعقل التعقلي فهو مخالف للعقل النظري والأخلاقي .

العقل والمعقول

عندما يخالف شخص العقل الأخلاقي على حساب العقل التعقلي فإنه لا يوصف باللاعقلانية بل باللامعقولية , فما هو الفرق ؟ الفيلسوف الأمريكي جون رولز يحصر مفهوم المعقولية بحيث لا يشتمل ما صدقه سوى على الحالات التي يكون لدى الأفراد إستعداد للدخول في علاقات تعاونية مع الآخرين والتقيد بشروط هذه العلاقات .

فإذا كانت العقلانية هي تحديد الغايات وترتيب الأولويات وإختيار الوسائل المؤدية الى تلك الغايات للمصلحة الذاتية أو المنفعة الشخصية فإن المعقولية هي الحساسية الأخلاقية وإمتلاك حس بالعدالة والمسؤولية , فالمعقولية ليست شرطاً للعقلانية ولا تنافيها , ولكن الشخص المعقول هو اكثر من مجرد كائن عقلاني ... هو الذي لا يقوم بتصرفات تجلب المنفعة الشخصية إذا تعارضت مع المباديء الأخلاقية أو مباديء العلاقات في المجال العام الملزمة للجميع , فالكائن العقلاني فقط بلا حساسية أخلاقية لا يتورع عن القيام بتصرفات تجاه الآخر ويرفضها إذا كان هو المتلقي أو منح الآخر نفسه الحق في عدم الإلتزام بالمباديء الأخلاقية وهذه هي قمة اللامعقولية .

ينطلق عادل ضاهر من ما سبق ليجعل الأفعال بشتى أنواعها موضوعات للتفكير الإستدلالي , فالعقل يتمثل في مجموعة قدرات كالتسويغ والتحليل والتركيب والتحديد والمفاضلة والتقويم وتعيين الغايات ووسائل تحقيقها . وهذه النظرة للعقل تزيل الحاجز بين العقل والفعل , وهنا لا بد أن نفصل بين العقل النظري والعقل العملي .

العقل النظري والعقل العملي

العقل النظري هو العقل المنوط بتغيير معتقداتنا أو إبقاءها كما هي , وهو المسؤول أن تكون لدينا تفسيرات متماسكة للواقع من حولنا , بينما العقل العملي هو المسؤول عن وضع الخطط والأهداف المتسقة مع غاياتنا وتكوين تصور متماسك لحياتنا ومتسق مع رغباتنا .

مثال : طالب رسب في إمتحان , فسر الطالب رسوبه في الإمتحان بسبب تحيز الأستاذ ضده , فإذا كان الطالب يعلم أنه لم يبذل الجهد الكافي ليجتاز الإمتحان فهذا دليل على أن تفسيره لرسوبه غير متماسك وغير عقلاني نظريا , أما إن كان قد درس واستعد بشكل جيد للإمتحان فإن تفسيره يكون أكثر تماسكاً ولا غبار على عقلانيته النظرية ... لنفترض أن هذا الطالب قرر أن يقضي وقته مع اصدقائه بدل أن يستعد للإختبار , إنه يعلم أنه إذا لم يقم بالحد الأدنى للنجاح في الإمتحان سيرسب وهنا لا غبار لا عقلانيته النظرية , ولكن اختياره لتمضية وقت مع اصدقاءه بدل الإستعداد للإختبار يدل على خلل في ترتيب اولوياته ونقص في عقلانيته العملية .

وهنا عدة مباديء تشرح وتفصل العلاقة بين العقل النظري والمعتقدات نذكر منها (التفسيرات المنقذة) لنوضح جانباً من تعامل العقل مع المعتقدات , فمثلا النص التوراتي يجعل عمر العالم 6000 الآف سنة ... بينما دللت مستحاثات على عصر الديناصورات وأن عمر الأرض أكثر من ذلك بكثير , ففسر الأصوليون في الولايات المتحدة ذلك بأن الله قد خلق هذه المستحاثات ! في محاولة يائسة لإنقاذ نظريتهم الأولى المستخرجة من نص مقدس بنظرية طفيلية أخرى .

لماذا يخلق الله مستحاثات لعصر لم يوجد ؟ هلى يريد الإله أن يضلل البشرية ؟ إن هذه العقلية التي رفضت التفسير المنطقي البسيط المنطلق من العقل المجرد بأن النص على خطأ تهدف الى إنقاذ النص المقدس وخلق الأعذار له ليس إلا .

أولية العقل

يبدأ عادل ضاهر بالأولية الإبستمولوجية للعقل , والتي يلخصها في أربع نقاط :

* العقل بين كل المصادر الممكنة لإعتقاداتنا وقراراتنا ومواقفنا هو الأكثر موثوقية في تقريبنا من معرفة الحقيقة أو الصواب
* في حال تعارض الإعتبارات العقلية مع غير العقلية فإن السابقة تبطل الأخيرة
* كل ما تدعي معرفته بدون سند عقلي إما أنه مجرد إعتقاد أو أنه لا يمكن التحقق من أنه مجرد إعتقاد بدون سند عقلي (المعرفة إما أن تكون عقلية أو أننا في وضع لا يسمح بأن نعرف بأنها معرفة)
* إفتراض أن هناك مصادر غير العقل للمعرفة هو إفتراض لا يستقيم بدون سند عقلي

الأطروحة الأولى تقرر ضمنيا أن هناك مصادر أخرى للمعرفة غير العقل كأن الجأ لسلطة ما أو كتاب أو إحساس داخلي , كأن الجأ الى اينشتاين فيما يخص النظرية النسبية أو الى عراف لمعرفة المستقبل , ولكن تحديد إذا ما كان المصدر للمعرفي موثوقا أو لا لا بد له من سند عقلي وهذا ما تؤكده الأطروحة الثانية , وهذا ما يجعل اللجوء الى عراف أو منجم كمصدر معرفي بدون سند عقلي امرا لاعقلانيا .

أما الأطروحة الثالثة فتوضح أن ما تدعي معرفته بدون سند عقلي فهو مجرد إعتقاد ولا يمكن أن نعترف به كمعرفة أو مصدر معرفي دون سند عقلي , حتى لو كان لجوءك لهذا المصدر يؤدي الى نتائج صحيحة أو ادعاءك أنك على مستوى معرفي آخر فإن كل هذا يظل مجرد إعتقاد دون سند عقلي , مثال : شخص ما قال في سباق للخيل أن الحصان الفلاني سيفوز وأن إعتقاده مبني على إحساس داخلي ... وفاز الحصان المعني بالفعل , هل نستطيع أن نقول أنه كان يعرف فعلا أن ذلك الحصان سيفوز ؟ الإجابة بالنفي , لأنه ليس لدينا أي سند عقلي مستقل عن إحساسه الدخلي , وإحساسه الدخلي مجرد إعتقاد ولا يرقى الى مستوى المعرفة , حتى لو إدعى ذلك الشخص أنه يمتلك مستوا أعلى من الإدراك (يقدر أن يعرف) فهذا لا يمكن التحقق منه بدون ادلة عقلية مستقلة .

وهذا يفضي بنا الى الأطروحة الرابعة والأخيرة , أن طرح أي مصدر معرفي دون سند عقلي مجرد إعتقاد وإعتماد مصدر للمعرفة يكون بسند عقلي ومفاضلة مصادر المعرفة ونقدها يكون بالعقل وبالتالي فالعفل هو أكثر مصدر موثوق للمعرفة .

حدود العقل

أحد أهم الإعتراضات على أولية العقل إدعاء البعض أن هناك حدودا للمعرفة العقلية وأن مايقع خارج هذه الحدود لا يمكنه معرفته بالعقل وأن العقل عاجز عن إدراكها , وهنا لا بد أن نتحدث عن حدود العقل ... قبل أن نناقش هل نستخدم العقل أو مصدرا آخر بخصوص شأن ما لا بد أن نحدد هل هذا الشأن عقلي أم غير عقلي ؟ عندما يقول لي أحد : كانت المحاضرة س مملة جدا ! فهذا ادعاء لا يمكن إثباته أو ضحده عقليا لأن العبارة ذات مدلول إنفعالي لا معرفي , وهذا ليس عجزا من العقل لأن الشأن ليس عقليا ... وأما الحديث عن عجز العقل عن إدراك بعض الأمور أو إيجاد حلول للسرطان أو الإيدز أو المجاعات أو الإحتباس الحراري فهذا عجز مرتبط بمحددات واقعية يمكن تجوزها من حيث المبدأ , بعكس العجز النظري الذي يروج له اعداء العقل بأن هناك حدا فاصلا لا يمكن للعقل أن يتجاوزه مهما تجاوز من محدداته الواقعية , والرد على هؤلاء بأن الشأن إذا كان عقليا فأن العقل يستطيع أن يتجاوز محدداته الواقعية ويعرف غدا ما كان لا يعرفه بالأمس , كما أن العقل هو المصدر الأول في الشأن العقلي ... أما عجز العقل في الشؤون غير العقلية فهذا لا يعد قدحا في العقل أو عيبا وعجزا في التعقل , كأن يقول أحدهم أن العجز عن تصور ما لا يمكن تصوره هو عجز في التصور أو أن العجز عن فعل ما لا يمكن فعله هو عجز في الفعل وهذا لا يعدوا كونه لغوا فارغا .

ننطلق من اثباتنا لأولية العقل على النقل واسبقيته على كل المصادر المعرفية الأخرى لننقض بقية اطروحات دعاة الإسلام السياسي

الإسلام دين ودولة

ان ادعاء ان الإسلام دين ودولة من ارباب الإسلام السياسي قائم على ان السياسة بعد جوهري في الإسلام وأنها بعد من ابعاد العقيدة للإسلام وأن علاقة الإسلام بالسياسة علاقة ضرورية وأن إقامة دولة الإسلام أو الخلافة جزء من الواجبات المنوطة بالمسلم , وهنا لا بد من سؤال : هل علاقة الإسلام بالسياسة علاقة تاريخية جائزة مرتبطة بظروف معينة أم انها علاقة ضرورية كما يدعي الإسلامويون ؟
بعض الكتاب يرى أن القيام ببعض الواجبات الدينية للمسلم كالزكاة تتطلب وجود دولة إسلامية , وهذا في أحسن الأحوال يجعل العلاقة علاقة جائزة مرتبطة بأسباب معينة , بمعنى أنه إذا إستطاع المسلم تأدية كل واجباته الدينية فلا حوجة له لإقامة دولة إسلامية ... اما من يجعلون إقامة الدولة والإمامة والخلافة واجبا على كل مسلم وجزءا من صميم العقيدة كيوسف القرضاوي حين قال : الدعوة للعلمانية إلحاد ومروق عن الإسلام , فهؤلاء نرد عليهم لا بالنصوص والتلاعب بها وتطويعها , بل بإعتبارات فلسفية منطقية ومفهومية .

قبل أن نناقش علاقة الإسلام بالدولة لا بد أن نتحدث عن النواة العقدية للإسلام , وهو الإعتقاد بأن الله أزلي وخالق كل شيء وكلي الخيرية وكل المعرفية وما الى ذلك , هذه النواة العقدية ليست لدين الإسلام فقط بل هي لكل الأديان التوحيدية , فإذا كانت إقامة الدولة جزءا من النواة العقدية للمسلم فهذا ينطبق ايضا على المسيحية واليهودية , وأما من يقول أن الإسلام إختص وحده بإقامة الدولة وأن العلمانية تخالف الإسلام ... فهذا يعني أن الإله الذي انزل اليهودية والمسيحية جعلهما لا يتعارضان مع العلمانية ! بل إن هذا الإله كلي المعرفة وكلي القدرة وكلي الحرية وغير متأثر بالعوامل الخارجية قرر أن يغير رأيه ويدخل خاصية إقامة الدولة في الإسلام ! وهذا الإدعاء متهافت مقارنة بأن ظروف الإسلام التاريخية هي من جعلت المسلمين ينشؤون دولة والعلاقة بين الدين والدولة علاقة تاريخية جائزة ليس إلا وأن عيسى لو بعث في بيئة محمد عليهما والسلام والعكس ... لكان عيسى محمد ومحمد عيسى .

عندما نختار كيف ندير مجتمعنا سياسيا او إقتصاديا فلا بد أن نستحضر الغايات , فنحن لا نختار الرأسمالية أو الإشتراكية حبا في الملكية الفردية لذاتها أو إلغاء الملكية الفردية لذاتها , بل لأن لنا اهدافا نختارها ونفاضل بينها كالرفاه والعدالة الإجتماعية وغيرها ... الإسلاموي بمنطقه المغلق يجعل الغاية هي مرضاة الله , وهنا مثال نضع إحدى أطروحات الإسلامويين تحت طائلة النقد العقلاني ... عندما يقول الإسلاموي أن معاقبة السارق يجب أن تكون قطع يده , كارل بوبر يقول أن الملاحظات لا تثبت نظرية علمية لكنها قد تضحدها ... بمعنى أن الإسلاموي يطرح قطع يد السارق كحل أمثل لمعضلة السرقة , ويلاحظ العقل أن هناك دولا لا تطبق هذه العقوبة وتنحسر فيها هذه الجريمة الى اقل مستوياتها لدرجة اغلاق السجون ... عندها يستطيع العقل أن يستنتج أنه من الممكن محاربة السرقة بدون قطع الأيادي وتشويه المجرمين بل إعادة تأهيلهم وجعلهم جزءا فاعلاً من المجتمع

في هذه الحالة على الإسلاموي أن يثبت أن علينا عقليا ومنطقيا أن نتخلى عن نظام عقوبة أفضل يحافظ على المجتمع ويؤهل السارق لأجل مرضاة الله !

الإنسان لا يستطيع تدبر أموره دون وحي الهي

هنا نواجه الإسلامويين في أطروحة أن الإنسان لا يستطيع أن يتدبر شأنه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي دون توجيه الهي أو وحي أو نص مقدس , وأول خطوة لهدم هذا الإدعاء اللاعقلاني هو التأسيس بأن الأخلاق ذات اسبقية على الدين ... إذا كان الإنسان بعقله يعرف الله فما الذي يمنعه من معرفة ما يصلح لحياته ؟ لنضرب مثالاً للتوضيح ... إذا وجد إنسان نفسه بين الإله وبين شيطان ديكارت الماكر , كيانان كلاهما كلي القدرة وكلي المعرفة وأحدهما كلي الخيرية , كيف يميز هذا الإنسان بينهما ؟ كيف يفرق الإنسان بين أوامر الإله والشيطان إذا لم يكن له ميزان اخلاقي مستقل عن الدين ؟

هل الأخلاق تجد مصدرها في الأوامر الإلهية ؟ بمعنى هل الأمر الإلهي هو المعيار الأخلاقي بحد ذاته ؟ لو أمرنا الإله بهدم مدينة على رؤوس ساكنيها أو قتل أطفال ابرياء ... هل يصبح هذا الأمر أخلاقيا بحد ذاته ؟
إذا يجب على العقل أن يتبع الوحي بشكل أعمى ؟ إذا كان الإنسان بحاجة الى الوحي في تسيير أمور حياته وصادف  شخصين يدعيان النبوة ... من يتلقى الوحي لا يحتاج لدليل مستقل عن الوحي , فماذا عن الذي لم يتلق الوحي بشكل مباشر ؟ كيف يحدد الإنسان أيهما نبي حقيقي إذا لم يكن للإنسان مقياس عقلي وأخلاقي مستقل ؟ وإذا كان الإنسان يستطيع بشكل عقلي أن يحدد ما هو أخلاقي وما إذا كان الوحي حقيقا ولائقا بالإله ... فلماذا لا يستطيع أن يحدد ما هو الأصلح له ؟ لماذا لا يستطيع أن يتدبر ويسير أمور حياته ؟

لا إجتهاد مع النص

القاعدة الرابعة التي ينطلق منها الإسلامويون وهي من أهم القيود التي يكبلون بها العقل ويؤسسون بها لتطبيق الشريعة ويخرسون كل من عارضهم أنه لا إجتهاد موضع النص , وهذا الجزء بالنسبة لي هو الجزء الأهم لأن الشرعية التي يضفيها الإسلاموي على نفسه منبعها أن نصوصه فوق العقل والإجتهاد , وبيان عدم معقولية هذا الإدعاء سيفتح الباب على مصراعيه أمام العقل وسيحرره من قيود دعاة الإسلام السياسي .

معظم الإسلامويين يتفقون على قاعدة : لا إجتهاد في موضع النص أو مع وجود النص لا مجال للإجتهاد . فالإسلامويون يتحدثون عن النصوص القطعية الثبوت التي تلغي الحوجة للإجتهاد ... ولكن فهم النص يتطلب معرفة أحوال وثقافة من عايشوا ظهور النص وإستعمالهم له ووضع كل ذلك في سياقه التاريخي . وهنا سؤال : ما هو الشرط الذي يجب ان يتوافر في النص ليكون قطعي الثبوت ؟

هل المعيار إتفاق العقول ؟ إن معيارا كهذا يتطلب أن لا يكون هناك أي خلاف حول النص وألا يختلف إثنان حول الحكم المفهوم من النص سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ... ويظهر عدم جدوى هذا الشعار بأن اي خلاف حول النص يجعله قابلا للإجتهاد والإختلاف حول فهم النصوص قائم بين الأصوليين والتجديديين ومختلف الطوائف حتى يومنا هذا .

يحاول البعض الخروج من هذا المأزق بجعل الإتفاق محصورا بمن لديهم الكفاية اللغوية والفقهية , ولكن هذا التعديل في المعيار لا يخرجنا من المأزق لعدة اسباب منها : كيف يمكننا تحديد الكفاية الفقهية ؟ هل كل الخلافات الفقهية سببها نقص الكفاية لدى فريق ما أم اختلاف الخلفية الثقافية ؟ لماذا نحتاج الى كفاية فقهية تقربنا من فهم معنى النص إذا كان النص لا يحتاج الى إجتهاد اصلا ؟!

هل يمكننا الإستغناء عن المعايير ؟ هل يمكن أن يكون النص هو المعيار وأن يطابق المعنى الظاهر المعنى الحقيقي ؟ الحقيقة ان جعل النص الذي يدعون أنه قطعي الثبوت معيارا ينطوي على مخالفة صارخة للعقل , فنحن نحتاج الى معيار مستقل عن النص لنثبت إن كان قطعي الثبوت أم لا ... فإذا كان النص يخص مسألة حياتية كأحكام الشريعة مثل قطع يد السارق وجلد الزاني , كيف نفكر في هذه النصوص ونستنبط الأحكام منها ؟ هل الغرض منها الإنتقام من الجاني أم حماية المجتمع أم تأهيل الجاني ؟ هل لها حكمة أم أن لها قيمة في ذاتها ؟ إذا كان تطبيقها هو الغاية وليس الحكمة وراءها إذن هي حكم إلهي منذ الأزل ... فلماذا تغيرت مع تغير الديانات السماوية ؟ كيف يستقيم أن هذه العقوبات هي وليد ثقافة بشرية لا الهية مثل قطع يد السارق الذي كان يطبق في الجاهلية قبل الإسلام ؟ نلاحظ هنا أن اي محاولة لوضع حد أمام الإجتهاد هي نفسها عرضة للإجتهاد وأن فرض أي معنى أو وسيلة هو قفزة إجتهادية في حد ذاته .

النقطة الأهم التي يجب أن نشدد عليها أنه من غير الممكن فهم نص ما دون معرفة الخلفية المفهومية وراء النص , فلو قرأنا نصا إنجليزيا عن الحشمة من العصر الفكتوري فإنه لن يوصل نفس المعنى للإنجليزي في عصرنا الحالي , لأن مفهوم الحشمة إختلف مع إختلاف الثقافة من وقتها وحتى الآن ... هل يكون الحل في فصل النص عن السياق والتعامل معه بشكل مجرد ؟ إن هذا المقترح أو هذه الرؤية لإنقاذ نظرية النصوص قطعية الثبوت التي لا تحتاج ال إجتهاد تنطوي على لامعقولية منقطعة النظير , لأنه من غير الممكن فصل المعنى عن الإستعمال وهنا يضرب عادل ضاهر مثالا في قمة الروعة


لنأخذ جملة بسيطة مثل (إنها تمطر في الخارج) , قد يبدو لنا للوهلة الأولى أن معنى هذه الجملة واضح لا لبس فيه لكل من يتقنون اللغة العربية , ولكننا نتناسى أن معنى هذه الجملة قد يختلف تماما حسب إستخدامها ... قد تكون إخبارا بسيطاً عن الطقس , أو تحذيرا من أب لإبنته ليحضها على حمل مظلة , أو قد تكون مثلاً أو قولاً شعبياً مرتبطاً بثقافة ما , أو قد تكون مذكورة داخل قصيدة ... أمثلة كثيرة تثبت أن هذه الجملة على بساطتها لا يمكن إستقاء معنى مباشر منها دون معرفة الإستخدام والخلفية الثقافية .

أما بخصوص حديث بعض الإسلامويين عن الديمقراطية وأنها لا تتعارض كليا أو نسبيا مع الإسلام السياسي أوجهكم اعزائي القراء لقراءة مقال لي بعنوان : خديعة الديمقراطية الإسلامية

الإبتزاز بالإعجاز

حين نتحدث عن العقل والنقل وعلاقة الإنسان بالنصوص المقدسة فلا بد لنا ان نصطدم عاجلا ام اجلا بالإعجازيين ، فالعقل الذي صعد الى الفضاء وانتج العلوم وشيد الحضارات دون رجوع الى دين او مقدس في نظر الإعجازيين هو عاجز ناقص لا يستحق ان يتبع ... ودليل على دعواهم هو الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والأحاديث النبوية . فقد دأبوا مرارا وتكرارا على تسفيه العقل والعقلانيين والتغني بالإعجاز العلمي في النصوص المقدسة ، وهذا موضوع خطير يجب ان نقف عنده وان نعالجه من عدة زوايا مختلفة ...
وهنا نبدأ بسؤال : هل هناك اعجاز علمي في القرآن الكريم والأحاديث ؟ سؤال قديم جديد ، ناقشه وبحث فيه الكثيرون ، وهناك الكثير من الأسماء اللامعة والعظيمة التي وقفت في وجه ما يسمى بالإعجاز العلمي ... ليس كراهة في الإسلام او حرابة له ، بل اعترافا بالبون الشاسع بين العلم والدين وحفظا لقداسة الدين ومكانة العلم .

ومن اهم تلك الأسماء في وجهة نظري الدكتورة العظيمة بنت الشاطيء التي وقفت ضد د. مصطفى محمود الذي كان على رأس الإعجازيين في تلك الحقبة من الزمن ، ومن اهم المواقف التي تتسم بالطرافة التي وقعت في سجالهما ان د. مصطفى محمود في قوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) ان هذه الآية فيها اعجاز علمي لأن العلم اثبت ان انثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر ، فرد عليه د. بنت الشاطيء ردا مفحما مفاده ان العرب في جاهليتها انثوا لفظ العنكبوت كما انثوا مفرد النحل والنمل والدود ، فكانوا يقولون نحلة ونملة ودودة ... فهل كانوا معجزين ؟!

ومن اجمل الكتب التي تناقش قضية الإعجاز العلمي بشكل جميل ورائع كتاب وهم الإعجاز العلمي للدكتور خالد منتصر ، وفيما يلي بعض تخاريف الإعجازيين التي ذكرها د. خالد في كتابه :
في قوله تعالى : ( يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء )
الإعجاز : اثبت العلم انه كلما ارتفعنا انخفض الضغط الجوي وقل الأكسجين وزادت صعوبة التنفس
الحقيقة : في قاموس العرب يصعد بتشديد الصاد تعني المشقة في عمل المستحيل والآية تشبه ضيق صدر الكافر كمن يحاول الصعود الى السماء وهو بالنسبة له امر مستحيل ولا علاقة لها بما يذكره الإعجازيون

في قوله تعالى : ( والأرض بعد ذلك دحاها )
الإعجاز : اثبت العلم ان الأرض ليست كروية فقط بل بيضاوية كبيضة النعامة او الأدحية
الحقيقة : قبل القرآن قال الشاعر عمرو بن نفيل :
اسلمت وجهي لمن اسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت على الأرض ارسى عليه الجبالا
فهل كان عمرو بن نفيل نبيا ام معجزا ؟

في قوله تعالى : ( وانه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة اذا تمنى )
الإعجاز : سبق القرآن العلم في التأكيد على ان الرجل هو المسؤول عن جنس المولود
الحقيقة : قالت زوجة ابي حمزة العيني هذه الأبيات بعد ان هجرها حين ولدت بنتا :
ما لأبي يحيى لا يأتينا ظل في البيت الذي يلينا
غضبان الا نلد البنينا تالله ما ذلك في ايدينا
ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد زرعوه فينا
فهل كانت هذه المرأة يوحى اليها ؟ ام كانت معجزة ؟

في قوله تعالى : ( خلق الإنسان من علق )
الإعجاز : يقول د. زغلول النجار الذي استلم راية الإعجاز العلمي عن د. مصطفى محمود : ان العلق هي ديدان حلقية تعيش في المياه العذبة وهنا القرآن يشير الى مرحلة جنينية معينة يشبه فيها الجنين شكل هذه الديدان
الحقيقة : معنى كلمة العلق في قاموس العرب هو الدم الغليظ ولا علاقة لهذه الكلمة بالديدان لا من قريب ولا من بعيد
ولمن اراد ان يستزيد انصحه بقراءة كتاب وهم الإعجاز العلمي لدكتور خالد منتصر

ان الملاحظ لحركة الإعجاز العلمي يجد انها حركة ذات اتجاه واحد ، فنحن ننتظر حتى يبحث العالم ويجرب ويخطيء ويصيب وحين يكتشف نقول له : لم تأت بجديد ... موجود لدينا في ديننا ! ونحن هكذا جعلنا الدين حاويا لكل العلوم من جراحة دقيقة وفيزياء نووية وقوانين اقتصادية واستراتيجيات حربية وعلوم فضائية ! وكلنا يعلم ان هذا غير صحيح ... ولو كان صحيحا لكان العرب الذين انزل عليهم القرآن اعظم البشر من ناحية العلوم حتى يوم القيامة ولما احتجنا ان نفتح معملا او نبني مختبرا .
الحقيقة التي نتعامى عنها ظانين اننا نخلق تفوقا وهميا لأنفسنا وقداسة لديننا هي اننا نرى انعكاس افكارنا ومفاهيمنا في نصوصنا الدينية ، فلو اكتشف العلم حقيقة مثبتة تخالف فهمنا للدين لغيرنا فهمنا للدين ليوافق العلم ... واكبر دليل على ذلك الفتوى الفضيحة لإبن باز حين قال : ان القول بأن الشمس ثابتة وان الأرض دائرة قول شنيع ومنكر ، ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل ويجب ان يستتاب والا قتل كافرا ومرتدا ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين !!! ( علامات التعجب من عندي )
واستدل ابن باز بآيات مثل : ( وجعل لكم الأرض قرارا ) ( والقى في الأرض رواسي ان تميد بكم ) ، ومات ابن باز ولا زالت هذه الآيات مقروءة حتى يومنا هذا ولكن ما اندثر وتغير هي فتوى ابن باز وفهمه لهذه الآيات وفهم من شاكله .

اننا حين ننظر الى القرآن الكريم والأحاديث النبوية فإننا يجب ان نراعي البيئة والثقافة المحيطة بنزول القرآن وذكر الأحاديث ، فلا مكان لغمس الذباب الذي لم يستخرج احد من جناحها دواء نافعا في زمن مكافحة الذباب والآفات واصحاح البيئة ولا مكان للتداوي ببول البعير في زمن دراسة الجينات وفك شفرتها ، ولا مساحة في حاضرنا لإجترار الماضي في زمن استشراف المستقبل ...

لك الخيار يا عزيزي القاريء وعزيزتي القارئة ان تختلف معي في الرأي وان تتفق مع الإعجازيين وان تصدق ترسانتهم الإعلامية الضخمة ، ولكن اسمحوا لي ان اخبركم لماذا أكتب لكم عن الإعجاز العلمي  ... ان الإعجاز العلمي لم يعد مجرد وسيلة للدعوة الى الإسلام ، بل صار في زمن عودة الخلافة والمد الداعشي مبررا للإجرام والغاء العقل بإسم الإسلام . وحين تحتج بأن هذا مخالف للعقل والمنطق يرفع في وجهك كرت الإعجاز العلمي وان عليك ان تطفيء سراج عقلك وان تتبع هذا الكلام المعجز !!!

ان عيسى عليه السلام الذي احيا الموتى لم يبن مستشفا واحدا ، ان موسى عليه السلام الذي شق البحر لم يبن جسرا ولا نفقا ولا سدا ... بل العقل هو من بنى المستشفيات والجسور والأنفاق والسدود والحضارات
ان القرآن الكريم نص يرقى ويسمو برقي وسمو قارءه والعكس صحيح ، ولا يوجد مبرر لإرتكاب افعال لاعقلانية بحجة أن النص يتجاوز العقل !

والتفرقة بين العلم والدين ليست طعنا في الدين ، فالدين مبني على اليقين والعلم مبني على الشك والتجربة والخطأ والصواب ... واختم بهذه القصة ، هذا رابط صورة اشعة نشرها موقع لشخص والقلب غير موجود في الصدر ، وشرح الموقع ان هذه حالة طبية تدعى tin man syndrome يكون القلب فيها في التجويف البطني ، فقفز احد الإعجازيين وقال ان هذا اعجاز علمي جديد ! اذ قال تعالى : مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... (الأحزاب ٤) ولم يقل في صدره ... وكشف الموقع ان الخبر لم يكن سوى كذبة ابريل !
http://radiopaedia.org/articles/april-fools

اننا لا ننصر الدين حين نستخدم الإعجاز العلمي لنصر تراثنا على ما انتجه العقل واقرته الأخلاق ، فلا نصرة لدين يحارب العقول

الخطر القادم : العقلانية الزائفة

تحدثنا على اساس فلسفي عن أولية العقل كمصدر معرفي وأسبقيته على النصوص الدينية , ثم ناقشنا فكرة الإعجاز العلمي في النصوص الدينية التي يحاولون أن يرفعوا بها مكانة النصوص على العقل ... وأختم بتحذير يتهدد العقلانية والتفكير العقلاني في العالم عموما وفي السودان خصوصا , الا وهو العقلانيون المزيفون

مع ظهور التطرف والظلم والمآسي المرتبطة بالحكم الديني والإسلام السياسي ظهرت الحوجة للفكر العقلاني والتسامح والنسبية والعلمانية , ولكن المأساة أن الإسلامويين كعادتهم في تغيير جلودهم ومسمياتهم فقد بدأت تظهر محاولات لإحتلال التيار العقلاني ... فلم تعد الجماعات الإسلامية تدرس العلوم النقلية التي انتجها الأصولوين وتدعو للعودة الى منهاج السلف وزمن الخلافة فحسب , بل ظهرت مجموعات تتغول على العلوم العقلية وتدعو للنظر اليها نظرة إسلامية ! هل سمعت يوما بعلم رياضيات إسلامي أو طب إسلامي ؟ ولكنك ستسمع عن سياسة إسلامية وإقتصاد إسلامي , بل تجد أحدهم يتكلم عن علم الفلسفة والمدارس العقلية وينتقدها ويذكر عيوبها وإختلافه مع منهجها ... ثم يقدم طرحه المستند على النصوص بدون أي سند عقلي !

قد دللنا في هذا المقال عن عدة مواضح تفضح لاعقلانية دعاة الإسلام السياسي , ولكن ما يجعل هذا الخطاب اللاعقلاني ذا رواج وجماهيرية واسعة هو أن ثقافة العقلانية والتفكير العقلاني ضعيفة ومحاربة في مجتمعاتنا . إن كان افلاطون يرى أن الحل لإقامة المدينة الفاضلة في الحاكم الفيلسوف فأنا ارى أن الحل هو في الشعب الفيلسوف ... الشعب الذي يعرف أنه لا يعرف شيئا بعد ولا يقع في فخ وهم إمتلاك الحقيقة المطلقة , إننا بحاجة للإنطلاق من العقل الخالص وأن يكون الشأن الحياتي والدنيوي في حدود العقل فقط . إننا نحتاج الى تبسيط الفلسفة ونشر مفاهيمها والتعريف بتاريخها ... نحتاج الى نشر الأدب الفلسفي وتدارسه وجعله جزءاً من ثقافتنا .

وهذه رسالة ورجاء مني لكل المثقفين عموما ولمثقفي السودان خصوصا , أن يلعبوا دورهم كعقلانين حقيقيين ينادون بعقلانية مستقلة عن كل الأديان لنشر ثقافة العقلانية والتفكير العقلاني وألا يتركوا الساحة للإسلامويين المتنكرين بزي العقلاء فالعقل ليس حكراً على دين دون سواه أو جماعة دون سواها .

No comments:

Post a Comment