Sunday, August 5, 2018

الى ملائكتي الصغار

ابنائي وبناتي اللذين لم أنجبهم بعد ... ولا أدري هل ستأتون الى الوجود أم لا , أكتب إليكم هذه الرسالة وكلي أمل أن تقرأوها وأنتم بأفضل حال ... أتمنى بكل كياني أن يكون حالكم خيراً من حالي وأن لا تحاصركم الهموم والآلام كما أنا محاصر الآن .
أكتب لكم وعمري 32 عاماً ولم أتزوج أمكم بعد , في الحقيقة لا زلت أبحث عن إمرأة بها أتجاوز هذا الرعب الذي ينتابني حين أفكر في الإنجاب أو أن أكون أباً ... لا تسيئوا فهمي فلا مشكلة بيني وبين الأطفال أو الطفولة , بل على العكس ... وجدت نفسي منذ الصغر أحب الأطفال جداً , كان الأطفال وما زالوا بالنسبة لي أجمل مافي هذا الجنس البشري ... الطفل المولود حديثاً هو التعبير الوحيد والحقيقي عن الحرية التي نفقدها ونقضي حياتنا كلها نبحث عنها , كما قال مكسيم غوركي : الحرية هي أول خمس دقائق وُلدت فيها أبكي عارياً، بلا أسم ، بلا خطيئة ، بلا توجهات ، وبلا حقد بشرّي .
الأطفال هم الصفحة البيضاء الوحيدة في تاريخ البشرية الأسود , يمسك المجتمع بهذه الورقة البيضاء فيكتب لهذا الطفل المسكين إسمه ودينه وجنسيته ليعيش حياته يسمي نفسه بإسم لم يختره , يفتخر بجنسية لم يخترها , يدافع عن دين لم يختره ...
بدأ رعبي من فكرة أن أكون أباً مع طفولتي , قبل حتى أن أبلغ أو أن أشتهي النساء ... بدأت مع حكايات أبي وأمي عن أخوي اللذين ماتا قبلي وبعدي
...
أخي مدثر
هو الطفل الأول لأبي وأمي , يقولون أنه حين ولد كان يشبهني كثيراً ... تزوجت أمي أبي رغم أن الكثيرين نصحوها بأن تعدل عن هذا الزواج , فهو رجل بسيط ومصاب بإعاقة في ساقه , تزوجت أمي بهذا الرجل البسيط وتركت عملها في بنك الخرطوم لتغترب مع زوجها في المملكة كما فر الكثيرون من بطش نميري حالمين بحلم مستحيل حينها في السودان وحتى الآن ... يحلمون بحياة كريمة !
كان مدثر هو الحمل الأول , مات بعد ولادته بلحظات ... قالت لي أمي وهي تحكي لي قصة حياة مدثر القصيرة : مات والمشيمة لا زالت تتحرك , لا زالت حية !
موت مدثر لم يكن مجرد وفاة طفل ... كان أمي وأبي يخططان أن يسافرا الى مصر مع طفلهما الأول الى مصر , حلم جميل ... كانت أمي التي تركت أهلها ووطنها وعملها لتؤدي دورها البطولي كزوجة مخلصة مكانها في بيتها تنتظر الساعات الطوال بينما زوجها في العمل ... في بلد لا صاحب فيها ولا قريب وكانت الصحوة الإسلامية في أوجها في المملكة ... ومحمد بن سلمان لم يأت بعد ... هذا الحمل وهذا الإنتظار ل 9 أشهر وآلام المخاض لم تكن لمجرد طفل , كان هذا الميلاد ميلاد حلم ... ميلاد أمل ... أمل أن كل هذه الخيارات ... كل هذه الوحدة ... كل هذا الألم ... لم يكن للاشيء ... ولككن للأسف , مات الأمل .
أخي يوسف
لا أعرف كيف كانت تبدو ملامح مدثر , فحياته كانت أقصر من أن يظهر في الصور العائلية ... بعكس يوسف الذي ولد بعدي ولا أدري أهو حسن حظ أم سوء حظ عاش لعدة أشهر قبل أن توافيه المنية ... كنت أنا بصحة جيدة بعكس أخي الأصغر الذي ولد بعيوب خلقية منها ثقوب في القلب , ملامح يوسف من صوره التي لا زلت أحملها معي حتى الآن وقصته محفورة في ذاكرتي بكل تفاصيلها الجميلة والمؤلمة ... كان يوسف وما زال أجمل طفل رأيته في حياتي , تحكي لي أمي أنني كنت طفلاً عدوانياً وأنها كانت تضطر أن تحمي يوسف من ضرباتي الموجعة ... آسف يا يوسف ... سامحني يا أخي ... ندمي فوق الوصف .
ها هو الحلم بدأ يتحقق بعد النكسة , ها هما طفلان في بيتنا ... ياسر البدين يتناول طعامه متسمراً أمام التلفاز , وها هو يوسف يركض في مشايته ليلاقي والده العائد من العمل بعد أن سمع صوت الباب بملامحه الملائكية وإبتسامته المرحة ... أخيراً إبتسمت الحياة بعد مشوار معاناة طويلة , ولكن للأسف كانت هذه الإبتسامة هي الهدوء اللذي يسبق العاصفة .
يصاب يوسف بأزمة قلبية حادة , يبدو أن قلبه الطاهر لم يعد يتحمل هذه الوجود البشع ... لم يكن رحيل يوسف هادئاً كما رحل مدثر , جذوة الحياة تنطفيء تدريجياً أمام والديه ... أزرق اللون عاجز عن التنفس وبارد ومرتخ كما الأموات ... يسارع والدي ويأخذه الى المشفى ! يحاول الأطباء إنعاش قلبه المنهك الذي توقف عن الخفقان , عدة دقائق والأمل الكاذب يرقص في خيال أبيه ودعوات أمه حتى يخبرهم الطبيب بالحقيقة المنطقية المرة ... للأسف ... لقد توفي .
يبكي أبي وهو يرجوا الأطباء : حاولوا معه ... أرجوكم ... جسده لا زال دافئاً ... ولكن الأطباء يعلمون أن إنقطاع الأكسجين عن دماغه كل هذا الوقت حقيقة لن يغيرها البكاء أو النحيب ... يناقش مدير طبي الحوادث مع أبي إجراءات دفن الطفل ... مات يوسف !
أبنك الذي كان حجر الأساس الذي تدور حوله كل حياتك ... حان الوقت أن تدفنه في التراب , أخبر زوجتك أنها لن ترضع طفلها بعد اليوم ... لا تتوقع أن يركض نحوك حين تعود من عملك حين يسمع صوت الباب ... أخبر إبنك الآخر أنه ربما يعيش حياته وحيداً ... ولكن إطمئن , هذا الألم الهائل سيتلاشى مع الزمن ... ستختفي ملابس يوسف ومتعلقاته وسيقل الحديث عنه تدريجياً دون تخطيط مسبق ... ستواصل عملك وستنجب أطفالاً آخرين ... وسيتحول يوسف الذي كان يعني كل شيء ... الذي كانت تبدأ الحياة منه وتنتهي إليه ... الى ذكرى وبضع صور قديمة ... لا تقلق .
لا أدري كيف تجاوز والداي رحيل مدثر ويوسف ! هل فعلا ذلك بوعي أو بدون وعي ؟! ولكن ما أعرفه أنه هذا الرعب لازمني حتى أصبحت طبيباً ... لم أعمل في طب الأطفال إلا في الإمتياز مضطراً , وقررت بعدها أن لا يكون لي علاقة بطب الأطفال ... يرى الكثيرون أنني شخص صلب وقوي الشخصية ... ولكني للأسف أعترف أنني لا أستطيع تحمل معاناة الأطفال , وأنا على يقين أن وفاة أحد أطفالي سنكون نهايتي .
عملت كطبيب عمومي في أقسام الجراحة العامة في عدة مستشفيات في السودان وقررت أن أتخصص في الجراحة العامة بعيداً عن الأطفال , ولكن خلال مصادفات الحياة الغريبة هناك حوادث لا تخلو من كوميديا سوداء وسخافة منقطعة النظير , 6 سنوات أعمل طبيباً في السودان ... لم أتخصص لضيق ذات اليد ولا أملك 6 آلاف جنيه أدفعها سنوياً للمجلس الطبي مقابل سنوات التخصص , لم تعد ال 600 جنيه التي أقبضها كطبيب عمومي تساوي شيئاً ... أبي المعاشي يعتمد على إيجار شقة قد لا نجد لها مستأجراً , ومرتبي لا يكفي أن أشتري لأمي أمبولة الأنسولين ... آن الأوان أن يعيد التاريخ نفسه وأن أسافر الى المملكة هرباً من حكومة البشير وزنزانة الوطن بحثاً عن الحلم المستحيل بحياة كريمة , والفرصة الوحيدة المتاحة أمامي هي طبيب مقيم في عناية مكثفة للأطفال ! يال السخرية ... حان الوقت أن أواجه مخاوفي وأعيش اسوء كوابيسي .
وظيفتي الجديدة
ها أنا الآن اعمل في السعودية كطبيب مقيم في عناية مكثفة للأطفال لما يقارب الثلاثة سنوات , صرت قادراً على أن أدفع ثمن إحتياجات أبي وأمي ومصاريف إخوتي الجامعية ... ولكن مأساتي أنني خلال هذه السنوات أرى وجه يوسف في كل طفل أعالجه وأتعلق به , وطبيب العناية المكثفة يرى الأطفال في اسوء حالاتهم , هي المحطة الأخيرة قبل الموت ... إما الموت أو عمر جديد .
عيوب خلقية ... عيوب في حجرات القلب أو الصمامات ... تشنجات عصبية وأمراض عصبية ... أمراض إستقلابية وعوز في إنزيمات وهرمونات ... أطفال محكوم عليهم بالموت منذ الولادة ... إخوتي الذين هربت من موتهم طوال حياتي ها هم يموتون أمامي مرة تلو مرة ... ها هم الآباء والأمهات يبكون ... يسألونني لماذا يحدث لنا هذا ؟ لماذا مات فلذة كبدي ؟ مثل هذه المواقف هي التي جعلتني أتفهم حوجة البشر الى الإيمان ... من الطبيعي أن تنسب الأمر الى القدر وأن تحاول أن تفترض أن هناك خيراً خلف هذه الفاجعة , فهذا أسهل بكثير من أن تعترف بأن الشر يصيب البشر بلا مبرر يذكر , فالزلازل والبراكين والفيضانات لا تفرق بين مؤمن وكافر أو بين طائع وعاصي ... إن من قتلهم الطاعون لم يقتلهم غضب الإله بل لأن العلاج لم يخترع بعد .
أذكر من الحكايات التي سمعتها عن عمي شقيق أبي أنه قال حين سمع بخبر وفاة يوسف : لقد عاقب الله محمد بطفل مشوه ! وكانت هذه الكلمة الحقيرة من هذا الشرير سببها أنه على خلاف مع أبي ... لا أدري يا عمي أي إله تعبد ولكن لا ذنب ليوسف في أي شيء تظن أن أبي إقترفه .
موت الأطفال يفضح تناقضنا , عدالتنا العوجاء , تحيزنا وتفاهتنا كجنس بشري , فموتنا ومعاناتنا رحمة وإبتلاء ومحبة , وموت غيرنا ومعاناته غضب وإنتقام وعذاب ... فالله معنا ضد اعداءنا , وأنا كنت أظنه أرقى من نزاعاتنا وإختلافاتنا التافهة ... يال غبائي !
قبل أن تنجب ... لماذا ستنجب ؟
عندما نفكر في الإنجاب نتخيل دائماً أطفالاً جميلين اصحاء سعداء يحبون الحياة , أراهنكم أن الصور التي أراها في هذا الواقع البشع لا تتسلل الى خيالاتكم و أحلامكم ... فلا مشكلة حين تكون والد طفل سعيد يحب الحياة , لكن ما يرعبني فعلاً هو أن يكون طفلي في معاناة دائمة ... ولا أعني فقط أن يكون مريضاً يقضي في المستشفيات وقتاً أطول من وقته بين ذراعي , ولكن حتى لو كان مكتئباً أو كارهاً لحياته ... وهؤلاء كثر يعاقبون يومياً من المجتمع والمعالج الشعبي ورجل الدين وكل جريمتهم أن النواقل العصبية في ادمغتهم مختلفة ... ماذا لو نظر إليك طفلك يوماً ما والدموع تملا عينيه وسألك : لماذا أنجبتني ؟ لماذا جئت بي الى هذا الحجيم ؟!
بماذا ستجيبون ... ؟
ما ذنب طفلك أن يعيش حياةً لا يريدها ؟ لماذا يضطر أن يحمل إسم أسرتك ؟ فكرت طويلاً وبحثت في ذاتي مطولاً عن سبب مقنع فلم أجد ... حتى لو كنت أريدهم أن يكونوا سعداء وأن يجعلوا هذا العالم مكاناً أفضل , فالأولى لا أستطيع ضمانها والثانية مهمة لا شيء يجبرهم على تحملها ... لقد قالها برتراند رسل : مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك .
قرأت مرة على صفحات الإنترنت أن والدة بيتهوفن أنجبت 3 أطفال مصابين بالعمى , طفلين مصابين بالصمم , ومتأخر عقلياً قبل أن تنجب بيتهوفن ! لقد غير بتهوفن العالم وموسيقاه خلدها التاريخ ... لكن هل كان الأمر يستحق ؟ ماذا سيحدث لو لم يولد بيتهوفن ؟ هل يستحق إستمتاعنا بموسيقى بيتهوفن أن يعاني 6 أطفال من الحياة مع العجز و الإعاقة ؟! ولكن في النهاية من نحن حتى نحدد من يسحق العيش ومن لا يستحق ... ؟
الى ملائكتي الصغار
لا أدري إن كنت سأصبح أباً أم لا , وإن كنت سأصبح أباً فلا أدري متى ... أتمنى أن ألتقي أمكم قريباً وأن تنقذني من كل هذا الألم , فلم تعد فناجين القهوة والحبوب المسكنة تجدي نفعاً , الموضوع يا احبائي صعب ومعقد ... ستأتون الى هذا العالم رمزاً للطهارة والأمل ... لا أدري هل أنتم أشخاص مستقلون أم أنكم إمتدادي ونتاج قرارتي ... أين أنتهي وأين تبدأون ؟ ... حين أعلمكم حروف اللغة فإنني أكون بغير قصد قد قتلت الإبداع والخيال فيكم ... فلن تتخيلوا حروفاً أخرى غير التي علمكم لها بابا ... إعلموا يا أحبتي أنني سأعلمكم كل ما أعرفه وليس كل ما هناك ليعرف ... لا تخافوا أن تخترعوا حروفاً جديدة ... لغة جديدة ... عالماً جديداً تقلبون فيه الموازين وتغيرون فيه كل شيء ... ولكن إحذروا ! تغيير العالم مهمة صعبة وضحاياها كثر .
حين تقرأون كلماتي هذه لا تظنوا أنني لم أكن أرغب في إنجابكم , ولكن حاولوا أن تتفهموا ... حين أعود من عملي وقد أنقذت حياة طفل أشعر بأنني بطل خارق ... حصان جامح لا يجرؤ أحد على ترويضه ... قطار يعدو بسرعة جنونية لا يوقفه شيء , ولكن حين يموت بين يدي طفل ما ... حين لا أستطيع إنقاذ يوسف ... يموت البطل ... ويشيخ الحصان في حظيرة الواقع الأليم ... ويتآكل الصدأ القطار
إن كان هذا ما يحدث لي حين يعاني طفل لا علاقة تربطني به , فما بالكم سيحدث لي حين تجرحكم هذه الدنيا ... هذا ألم لا أطيقه
لا أريد أن أقدم وعوداً لا أستطيع الإيفاء بها ... ولكن أعدكم أنني سأبذل كل جهدي ... كل الممكن وبعض المستحيل ... لأجلكم
أراكم قريباً إن كان في العمر بقية
أمي الحبيبة ... لم تستطيعي السفر الى مصر مع مدثر , ولكني سعيد أنك سافرت إليها معي
ابي الحبيب ... كان بودي أن تكون معانا أنا وأمي حين سافرنا الى مصر
إخوتي الأموات ... أشتاقكم جداً
إخوتي الأحياء ... أحبكم جداً

No comments:

Post a Comment