Wednesday, April 18, 2018

في نقد ناقدي الحداثة وما بعد العلمانيين في السودان

لم أدخل عالم السياسة والأحزاب الإلكتروني مؤخرا ، كنت قد انتهيت من الإمتياز وأعمل طبيبا عموميا في مستشفى إبراهيم مالك ، لم تكن أسرتي مهتمة بالسياسة أو الأحزاب ... فأبي رجل شاعر يتغنى بقصائده القديمة وذكريات صباه ، معارضته للوضع السياسي ليست نابعة من انتماء حزبي أو أيديولوجي ... بل من مقارنة الوضع الحالي بزمن جميل عاشه ، حين كان السودان حرا كريما ، أما أمي فإمرأة طيبة وبسيطة لها مكتبة دينية ضخمة ، أكثر من عشرين عاما من الإغتراب لم تشتري فيهما ذهبا ولا عقارا ... لم تدخر في حياتها إلا مكتبتها الدينية ، ورغم غزارة معرفتها الدينية إلا أنها لم تكون يوما متشددة ... إن فوت أحد أبنائها الصلاة تدعوا له بالهداية ، التدين بالنسبة لها دافع للتفاؤل والأمل ... سيهدي الله أبنائي وبناتي وسيصلح حالنا طالما أننا نصلي وندعو .

بداية حياتي التي قضيناها في الغربة وأسرتي التي تنسب أغلب أحداث الأرض الى ملكوت السماء لم يخلق لدي الدافع لاقتحام مجال السياسة أو أنتمي إلى حزب ما حتى بعد أن بدأت دراستي الجامعية في السودان رغم أن ممارسة السياسية كان محظوراً في الجامعة التي درست فيها ، أعتقد من تجربتي الشخصية أن السودانيين الذين تَرَكُوا السودان وخصوصا بعد بطش نميري وإتجه جزء كبير منهم الى المملكة وخصوصا مع ثروتها البترولية قد عزفوا عن السياسة وكل ما يمت لها بصلة ... لا ينضمون إلى حزب ولكنهم ينتقدون الأحزاب بكل إستفاضة وإحترافية ، لا يشاركون في التغيير وينتظرون قدومه بفارغ الصبر ، معتقلات وبيوت أشباح في السودان وحكم ملكي ديني في المملكة ، وبين هذه المطرقة وهذا السندان صارت السياسة من أكبر الموبقات والمهلكات ... والأدهى والأمر أن أبي وأمي وجيلهم قد ورثوا هذا الرعب من السياسة إلى جيلنا ، كبرنا وهم يرددون على أسماعنا : لا تقربوا السياسة ! السياسة مجال قذر لا ينجح فيه إلا القذرون ! كل من دخلوا عارضوا النظام إما في المقابر أو في السجون ! وكبرنا مثلهم ننسب سوء حالنا الى معاصينا وثراء الفاسدين وسيطرتهم الى انها امتحان إلهي لندخل الجنة وأن الوضع المزري في الأرض سببه إرادة السماء .

لحسن حظي أنني لم أبق على هذا الحال ، دخولي الجامعة والتعرض لمختلف الأفكار أثار داخلي أسئلة لم أجد إجابتها في مكتبة أمي ... بدأت في قراءة الكتب والمقالات وأقتحام هذا العالم المحظور الذي حذرني والداي منه طويلا المسمى بالسياسة ، كما ان دراستي لكلية الطب ساهمت بشكل كبير في تغيير طريقتي في التفكير ... فالمرض لا يفرق بين مسلم وكافر ولا بين طائع وعاصي لا في تشخيص ولا علاج ، لتعالج مرضا لا يكفي أن تنسبه الى مشيئة الهية او ابتلاء يثاب عليه بالجنة أو الغضب والعقاب الإلهي... بل الى سبب عقلاني منطقي يمكن تحليله وتشخيصه ومعالجته ، فإذا كنّا لا نفرق بين مسلم وكافر في الطب فماذا نفرق بينهما في السياسة ؟ وإذا كنّا نستطيع أن نعالج أمراض الإنسان فلماذا نقف عاجزين أمام أمراض الدولة والمجتمع ؟

وقفت في عدة محطات في تحولي من ثيوقراطي يبشر بإقامة الخلافة الى علماني ينادي بالدولة الليبرالية ... مثل الشريعة الإسلامية وحقوق المرأة والأقليات وعلاقة الدين بالدولة ، وبعد بحث واضطلاع أصبحت علمانيا وانضممت الى الحزب الليبرالي ، كان الخيار وقتها بسيطاً في الساحة السياسية والثقافية في السودان ... إما أن تكون علمانياً تدعم الدولة الوطنية الحديثة وإما أن تكون ثيوقراطياً تنادي بعودة الخلافة , تختلف درجات العلمانية السودانية من علمانية صلبة تقف على أساس فكري متين الى علمانية تحاول إيجاد مشروعيتها من داخل الدين , وكذلك تختلف درجات الثيوقراطية السودانية من خطاب متشدد ينادي بإقامة الخلافة على أساس ديني وإحتذاء بمثال تاريخي لا يجوز الزيغ عنه الى ثيوقراطية لينة تحاول عقلنة الدولة الدينية وجعلها أكثر قبولاً للجانب العقلاني مثل الالتفاف حول حقوق الأقليات ومساواتهم مع الأغلبية الدينية أمام قانون مدني واحد بطرح أن يكون لهم محاكمهم وقانونهم ... في النهاية كونك مهتماً بالشأن السياسي يجعلك إما أكثر ميلاً الى العلمانية أو الثيوقراطية , إما أن تستشهد بأدلة عقلية أو بنصوص دينية ... ولا وجود لخيار ثالث غير الوطن ورابطة المواطنة أو الخلافة ورابطة العقيدة .

ولكن بدأت هذه الخارطة في السودان تتغير مع ظهور ما بعد الحداثيين السودانيين أو من أسميهم : (السلفيين الجدد) , وسبب إلتقائي بهؤلاء هو لعنة التيار العلماني في السوداني الذي يميل ممثلوه عاجلاً أم آجلاً الى التقارب مع الإسلامويين وتبني خطابهم ... حزب علماني سوداني عريق وذو تاريخ نضالي مشرف صرح أن من أهداف الحزب أم يكون لبس المرأة محتشماً ! وهكذا وبكل بساطة صار خطاب ذلك الحزب اليساري يمينياً بإمتياز وخلق شرعية لشرطة النظام العام واضطهاد النساء بإسم الحفاظ على ما يسمى بالحشمة .

والحزب الليبرالي لم يسلم من هذه اللعنة التي يبدو أنها تصيب الأحزاب العلمانية في ظل الانطمة الدينية , مثلما حاول حزب الوفد التقارب مع حزب الإخوان المسلمين في مصر نشأت علاقة بين الحزب الليبرالي السوداني وحزب الحقيقة الفيدرالي ... أجد صعوبة في وصف حزب الحقيقة الفيدرالي , فقيادات الحزب نخبة مثقفة ومتعلمة على يقين أن العلمانية ركن رئيس من أركان الديمقراطية , أما عضوية الحزب فبسيطة من مناطق هامشية عاثت فيها أدلجة النظام التعليمية والإعلامية فساداً ... ولأن نخبة حزب الحقيقة لا تستطيع مصارحة عضويتها بأنها تؤمن بعلمانية الدولة فإن الحزب يختبيء خلف كلمة دولة مدنية كما يفعل حزب الأمة بقيادة الديناصور صادق المهدي الذي اخترع مصطلح دولة مدنية بمرجعية إسلامية ! (سمك لبن تمر هندي)

تم توقيع مذكرة تفاهم بين الحزب الليبرالي وحزب الحقيقة الفيدرالي , كان التعاون فيه مصلحة الطرفين ... فالحزب الليبرالي لديه الكوادر النوعية والصلات الخارجية الهامة والمؤثرة , أما حزب الحقيقة الفيدرالي فلديه ما عجز التيار الليبرالي عن التحصل عليه حتى الآن , الجماهير ... القاعدة الجماهيرية الضخمة , بدأت الكارثة حين طلب حزب الحقيقة تطوير مذكرة التعاون الى إندماج بين الحزبين ... انقسمت عضوية الحزب الليبرالي الى قسمين إثر هذه المبادرة , قسم كان يدعم الإندماج للوصول الى الحزب الليبرالي الجماهيري المأمول وقسم كان ضد هذه الإندماج بحجة أن حزب الحقيقة ليس حزباً علمانياً ناهيك أن يكون ليبرالياً , وكنت أنا من العضوية المعارضة للاندماج , كان النتيجة إنقسام الحزب الليبرالي الى قسمين وبدأ الفريقان في الحرب الإعلامية التي مفادها أن كل منهما يدعيان أن لديه أغلبية العضوية وأن الآخر حوله شرذمة من المنشقين , وينطبق على هذا الوضع المثل السوداني المشهور (أب سن بيضحك على أب سنين) ... فكل عضوية الحزب الليبرالي هي ثلة لا تذكر بالنسبة لتعداد الشعب السوداني رغم ليبرالية قطاعات كبيرة من الشعب السوداني ولكنها لم تجد حزباً سياسياً يمثلها أو يرضي طموحاتها ...

قرر مجموعة من الشباب من المستقيلين من الأحزاب الليبرالية والمخذولين في التجربة الليبرالية السودانية عموماً بتأسيس حركة شبابية ثقافية , لا تسعى للتمدد أو تأسيس حزب بل خلق حراك ثقافي يؤسس للعلمانية والليبرالية في المجتمع السوداني , وفعلاً تم تأسيس هذه المجموعة التي شاركت فيها بعدة مقالات حتى قرر القائمون على هذه الحركة بالتقارب مع تيار إسلاموي بحجة أن الحركة ميتة ولا جماهير لها وأنه لا مانع من التقارب مع الإسلامويين لأننا لسنا حركة علمانية بل حركة (((ما بعد علمانية))) وكان هذا آخر عهدي بهم , إن مأساة الليبراليين الذين عاصرتهم وأعني هنا من حملوا على عاتقهم تمثيل الليبرالية في السودان أنهم يميلون الى الكسب السريع بدل العمل الشاق للوصول الى السودان الليبرالي الذي نحلم به , وبعد 30 سنة من الهدم الثيوقراطي في ظل حكم الحركة الإسلامية العسكري فإنه لا حل إلا بإعادة البناء وخلق قاعدة جماهيرية ليبرالية قبل أي آمال بالوصول إلى الحكم والاتكال على جماهير تعلمت وتربت في كنف الحركة الإسلامية .

إن دافعي لكتابة هذا المقال هو مصطلح (ما بعد العلمانية) الذي ظهر في الساحة الفكرية والحركات الطلابية في السودان , ففي الماضي حين يقول لك شخص ما أنا لست علمانياً فإن الاستنتاج الطبيعي هو أن الماثل أمامك ثيوقراطي يدعم الدولة الدينية ... ولكن من هو الما بعد العلماني ؟ ما هي بعد العلمانية ؟ وما هي الدولة التي يطمح لها مبا بعد العلمانيين السودانيين ؟ اسئلة أجد نفسي مضطراً لطرحها ومحاولة الإجابة عليها ... لقد قضيت فترتي القصيرة في العمل العام معارضاَ شرساً للإسلام السياسي والدولة الدينية , ولكن الخطر المحدق الآن ليس السلفيين التقليديين ... بل السلفيين الجدد , الذين إكتشفوا أن الإستشهاد بدريدا وفوكو أكثر جاذبية من الإستشهاد بالبخاري ومسلم , إن انتقاد الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة لم يعد من الجهة الدينية فقط أو ما قبل الحداثيين فقط , بل من ما بعد الحداثيين أيضاً ... وآن الأوان لتفنيد دعاوي ما بعد الحداثيين وما بعد العلمانيين في السودان , فمصطلح ما بعد العلمانية في السودان لا يتداوله إلا مخادع أو جاهل أو جبان .

لمناقشة دعاوى ما بعد العلمانيين في السودان لا بد أولاً أن نشرح ماذا نعني بما بعد العلمانية وما بعد الحداثة , وهذه مهمة شاقة وعويصة وخصوصاً أنني لا زلت أتلمس خطوطاتي الأول في الفلسفة ومحاولة فهم هذه المصطلحات المائعة والزئبقية ... ولكني سأبذل جهدي ...

الحداثة

وقبل أن نتحدث عن ما بعد الحداثة فلا بد أن نتحدث عن الحداثة , لن تجد تعريفاً ثابتاً أو متفقاً عليه للحداثة ... فكل سيعرفها ويصفها حسب موقفه منها , ولكن لنقل أن الحداثة هي منظومة فكرية تعد السمة الرئيسية للعصر الحديث أو ما بعد العصور الوسطى ... هل استمعت الى محاضرة وتمنيت لو أنك من القاها من شدة إعجابك بها ؟ حدث لي هذا في مرات قلائل آخرها وأنا أستمع الى الأستاذ عبد الإله بلقزيز في محاضرة عنوانها : الحداثة وما بعد الحداثة , تأملات نقدية . المحاضرة تقدمها أكاديمية المملكة المغربية وهي موجودة على اليوتيوب وأنصحكم جميعاً بمشاهدتها لأنها تشرح مفهوم الحداثة بشكل بسيط ورائع , فالحداثة حسب تعريف عبد الإله بلقزيز هي منظومة فكرية قائمة على قيم رئيسية مثل العقلانية , التفكير العلمي , النزعة النقدية , الفردانية , الحرية وغيرها ... وهذه المنظومة لها تجليات على مر التاريخ مثل الثورة العلمية , الثورة الصناعية , فلسفة الأنوار , الديمقراطية والعلمانية وغيرها ... والحداثة في تاريخها الذي يقال أنه من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر ( أنا ضد وضع تاريخ للنهاية للحداثة , فوضع تاريخ نهاية للحداثة يعني أن الحداثة قد إستكملت أهدافها وبلغت نهايتها وأننا الآن نعيش في العصر ما بعد الحديث ! وهذه نقطة أناقشها لاحقاً ) مرت بسبعة محطات أو فلنقل سبع لحظات تاريخية هامة , الأولى هي النهضة ونعني بالنهضة نهضة أدبية وجمالية أدت الى طفرة في الأفكار كان لها تمظهرات ثقافية وفنية وأدبية ومعمارية , الثانية هي الإصلاح الديني وإعادة قراءة وفهم النصوص المقدسة والتحرر من السلطات الدينية وتدشين مفاهيم مثل التسامح والحرية الدينية , الثالثة هي الثورة الزراعية والصناعية التي أدت إلى الانتقال من اقتصاد الكفاف الى إقتصاد الإنتاج والوفرة وتحسين ظروف الحياة وتوفير فرص عمل , كما أن وسائل الإنتاج الجديدة أدت الى إنتاج قيم ومفاهيم وعلاقات اجتماعية جديدة ونظرة جديدة الى العالم مختلفة عن النظرة المرتبطة بوسائل الإنتاج التقليدية , الرابعة هي الثورة العلمية التي ساهمت في تطوير الاقتصاد الأوروبي ونشر ثقافة التفكير العلمي والتجريبي , الخامسة هي فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر التي أدت هيمنة الفكر المدني الذي لم يكن فقط فكراً على المثقفين والفلاسفة بل بدأ ينتقل الى الثقافة العامة والفن والأدب , السادسة هي الثورة السياسية والديمقراطية والقومية , بدأت مع الثورة الإنجليزية مروراً بالدستور الأمريكي حتى وصلنا الى الثورة الفرنسية , هذه الثورات والدساتير هي التي أنهت التحالف بين الإقطاع والكنيسة وأجهزت على الملكيات المطلقة ودشنت لمفهوم الدولة القومية الحديثة والوحدات القومية , وهذ المفهوم أدى الى فصل عدة إلتباسات اعاقت أوروبا عن نهضتها وحداثتها مثل الفصل بين الديني والسياسي أو بين الكنيسة والدولة وميلاد العلمانية والديمقراطية , اللحظة السابعة والأخيرة هي ثورة التيكنولوجيا منذ بداية القرن العشرين حتى الآن التي كان لها أثر بالغ من تحسين الحياة ومحاربة الأمراض وحتى تغيير مفهومنا للزمان والمكان , هذه المحطات الرئيسية بإختصار شديد تمثل التاريخ التراكمي للحداثة وهي التي شكلت واقع الدول التي حققت حداثتها بشكل كبير ... فلا يمكن لهذه الدول أن تصل الى تقدمها دون ثورات علمية وتقنية , ولا يمكن أن تصنع مفاهيم مثل الدولة الحديثة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان دون ثورات سياسية وإجتماعية وقبل كل ذلك ثورات مفاهيمية وفكرية كان لها أثرها على الأدب والفن والثقافة والسياسة .

فإذا كانت هذه هي الحداثة فما هي ما بعد الحداثة ؟

ما بعد الحداثة

إن كان شرح الحداثة صعباً أو معقداً فإن شرح ما بعد الحداثة أكثر صعوبة وتعقيداً , وقد وقع إختياري على كتاب كريستوفر باتلر : ما بعد الحداثة مقدمة قصيرة جداً لأقدم شرحاً مبسطاً عن ما بعد الحداثة , فإن كانت الحداثة قائمة على يقينيات مثل أن التاريخ يتقدم إلى الأمام وأن المعرفة ستحررنا وأن هناك وحدة خفية بين جميع أشكال المعرفة فإن ما بعد الحداثة هي الموقف المتشكك من الحداثة , ما بعد الحداثة لا تقدم يقينيات جديدة أو وجهة نظر مضادة لوجهة نظر الحداثة لكي نقارنهما ... ما بعد الحداثة هي اليقين في الشك , هي الموقف المتشكك من كل شيء , ولكي نبين ذلك لا بد أن نبدأ بشرح جملة : الإدعاءات الكبرى ...

الإدعاءات الكبرى أو النصوص السردية الكبرى مثل الفلسفة الكانطية أو الهيجلية أو الماركسية أو غيرها من النصوص أو الفلسفات هي التي تقدم إدعاءاً يشرح أحداثاً ما ويبين آثارها , فمثلاً تزعم هذه الفلسفات أن المعرفة ستحررنا وأن العلم سينتصر وأننا سنصل إلى اليوتوبيا الماركسية مثلاً ... يرى ليوتار وهو أحد منظري ما بعد الحداثة أن هذه الإدعاءات قد فقدت مصداقيتها بعد الحرب العالمية الثانية , وعرف ما بعد الحداثة بأنها موقف متشكك من الإدعاءات الكبرى .

أستطيع أن أتفهم موقف ما بعد الحداثيين من الادعاءات الكبرى , فعدد لا يقدر من النزاعات التي تحدث في العالم يمكن أن نجد جذورها في أيدلوجيات متناقضة , والادعاءات الكبرى تخلق نوعا من الشرعية لسلطة أو لممارسة ثقافية , فالإمتثال إلى معتقدات
قومية ودينية شمولية أدى الى كثير من القمع والعنف , وفي عالمنا الحالي كثير على أستعداد أن يموت أو يقتل في سبيل سردية كبرى يؤمن بها , ولكن شكوك ما بعد الحداثيين لم تقف فقط عن الإدعاءات الكبرى بل تجاوزتها الى أبعد من ذلك بكثير ...


الفلسفة التفكيكية على سبيل المثال , فلسفة قائمة على أن الحقيقة في حد ذاتها نسبية وأن علاقة اللغة بالواقع علاقة مجهولة لا يمكن الاعتماد عليها , فالنظام اللغوي هو بنية ثقافية ... فاللغة ليست مرآة للطبيعة والثقة فيها ثقة زائفة متمركزة حول العقل , فعندما تستخدم لغة فأنت أسير لنظام لغوي ومفاهيمي غير قابل للقياس , وهذا ما لخصه دريدا قائلاً : لا يوجد شيء خارج النص باستثناء المزيد من النصوص التي نستخدمها في محاولة وصف أو تحليل ما تدعي النصوص الإشارة إليه .

بل يتعدى الأمر ذلك الى نزع سلطة المؤلف على النص وإعلان موته , فكاتب النص لم يعد مصدر المعنى والمالك الرأسمالي البرجوازي لمعنى النص , وهذا ما وضحه رولان بارت في كتاب : الصورة-الموسيقى-النص حيث قال :


نحن ندرك الآن أن النص ليس مجرد سلسلة من الكلمات تعبرعن معنًى لاهوتي واحد (أي رسالة المؤلف/الإله) لكنه فضاء متعدد الأبعاد؛ حيث تمتزج مجموعة متنوعة من الكتابات — لا يوجد بينها نص أصلي — وتتصادم ...إن الأدب يتمكن من خلال رفضه تخصيص معنًى نهائي»خفي«إلى النص (وإلى العالم باعتباره نصا) من تحرير ما قد يُطلق عليه نشاط معاٍدل للاهوتية ، وهونشاط ثوري حقا بما أن رفض تحديد المعنى يعني في النهاية رفضا لإله والأقنوم المرتبط به ؛ ألا وهو المنطق، والعلم، والقانون.


والتاريخ لم يسلم من نقد ما بعد الحداثيين , فالتاريخ مجرد حكاية , نص أدبي يحظى بقبول إجتماعي نسبي , هايدن وايت يكتب في النص التاريخي كنتاج أدبي من كتاب مدارات الخطاب : إن الإدعاءات التاريخية ... هي روايات شفهية , تضم محتويات مختلفة بقدر ما هي مكتشفة , ولدى صياغتها قواسم مشتركة مع نظيراتها في الأدب أكثر مما بينها وبين نظيراتها في العلوم .

أما فوكو فقد قدم تحليلات في العلاقة بين الخطاب (اللغة) والسلطة , فالخطابات السلطوية مصممة لاستعباد الناس والتحكم بهم , فيكتب فوكو في كتاب الانضباط والعقاب , ميلاد السجن : إن الشكل القضائي العام الذي يمنح حقوقاً متساوية من حيث المبدأ لم يلق دعماً من تلك الآليات الطبيعية اليومية المقبولة , ومن تلك الأنظمة السلطوية المصغرة الغير متناسقة وغير العادلة بطبيعتها , التي نطلق عليها أنظمة الإنضباط : مثل الإختبارات , والمستشفيات , والسجون , والقوانين التنظيمية في ورش العمل , والمدارس , والجيش .

فاللغة والمجازات والدلالات تحمل في طياتها خطاباً هو وليد سلطة وثقافة , فمثلاً في مقال كتبته عالمة الأجناس البشرية إيميلي مارتن (البويضة والحيوان المنوي) تزعم أن الصورة التي ترسمها التقارير العلمية عن البويضة والحيوان المنوي تلعب دوراً في تعريفنا الثقافي للذكر والأنثى , فالبويضة هي الخجولة والبريئة والحيوان المنوي هو النشط المسيطر الذي يقتحم البويضة ويسيطر عليها , آراء أفسدتها الثقافة والسياسة ... بل يعتقد البعض من الباحثين في المجال أن البويضة هي التي تبتلع الحيوان المنوي وتقبض عليه , هل هذه الخطابات وغيرها فعلاً وليدة سلطة وثقافة ونحن محبوسون فيها دون أن ندري ؟!

ففوكو مؤرخ معاد للتقدمية , يرى في السلطة أي كان شكلها إنهزاماً للمساواة وتسلطاً وإستعباداً , حتى الاحتكام الى منطق سليم يعتبر نظاماً سلطوياً يستعبد ما يراه هامشياً بإعتباره لاعقلاني ... ويذكر كريستوفر باتلر في كتابه المذكور آنفاً إحدى الردود على ميشيل فوكو , وهو من تيري إيجلتون في أوهام ما بعد الحداثة فيقول : يعترض فوكو على أنظمة معينة من السلطة لا لأسباب أخلاقية ... بل لأنها ببساطة أنظمة - وفقاً لوجهة نظر تحررية غامضة - قمعية في حد ذاتها .

وأما شيلا بن حبيب في تحديد مواضع الاذات فقد ضرب قيمة الفردانية في مقتل حين كتب : حلت محل الفرد منظومة من البنى , و التناقضات , والاختلافات التي - كي تصبح مفهومة - لا يلزم اعتبارها ذاتية حية على الإطلاق , أنا وأنت لسنا سوى (مواقع) لخطابات السلطة المتنازعة تلك , و(الذات) ليست سوى موضع آخر في اللغة . ! (علامة التعجب من عندي)

أستطيع أن أتفهم فلسفة ما بعد الحداثة في أنها شك في كل يقين ومطلق وتضع كل شيء تحت طائلة النقد حتى أدوات وأليات النقد ذاتها ,فكل صراع خلفه خطاب يحدد الانا والآخر , ووراء كل خطاب سلطة وثقافة يجب أن تنقد , ولكن ما لا أستطيع أن أفهمه هو الى أين يريد أن يصل الما بعد الحداثيون ؟ سؤال لم أجد له إجابة واضحة لا في فلاسفة ما بعد الحداثة العتاة أو ما بعد الحداثيين في دولة السودان التي لم تحقق حداثتها بعد ... هل يريدون منا أن نهدم الحداثة أم أن نصلحها ؟ إن تجاوزنا كل قيم ما بعد الحداثة فأي قيم نبني عليها واقعنا ونخطط بها لمستقبلنا ؟ إذا كانت الذات مجرد موقع في نزاع بين خطابات وسلطات متصارعة , إذا فقدنا الثقة في اللغة والتاريخ وكل المؤسسات التي أنجبتها الحداثة دون بديل ... ماذا بقي ؟ّ!

حسب اطلاعي البسيط في موضوع الحداثة وما بعد الحداثة فإنه لا يوجد مشروع سياسي لما بعد الحداثة , قد تجد نصاً أو فيلماً أو لوحة أو تمثالاً يصنف كفن ينتمي لثقافة ما بعد الحداثة ... ولكنك لن تجد مشروعاً لدولة جديدة أو ديمقراطية جديدة أو مؤسسات جديدة , ولكن يدعي ما بعد الحداثيين أن هناك مشروعاً سياسياً ينتمي لما بعد الحداثة , وهو ما بعد العلمانية ... فما هي ما بعد العلمانية ؟

ما بعد العلمانية

في السودان يتم نقد الحداثة من تيارين , التيار الديني الذي يحارب العلمانية لصالح الدولة الدينية , وتيار لا يجرؤ على مواجهة الإسلامويين ورضخ لوصمهم لكلمة علمانية في المجتمع وينادي بما بعد العلمانية خوفاً من التبعات السلبية لوصف علماني , وتجد الفئة الأخيرة دائماً تستشهد بهبرماس وأن العالم الآن قد تجاوز العلمانية وأن المستنير الحقيقي هو من ينادي لما بعد العلمانية وأن الوقت الحالي هو وقت الحركات والأحزاب الما بعد حداثية ... فلنرى ما يقوله هابرماس شخصياً عن علاقة الدين بالدولة , والاقتباسات التالية منقولة من كتاب : جدلية العلمنة العقل والدين .

والكتاب هو ترجمة لمناقشة نظمت سنة 2004 في الأكاديمية الكاثوليكية في ميونيخ , بين أحد أعمدة العقل في الغرب وهو الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وأحد أعمد الكاثوليكية الأوروبية الكاردينال الألماني جوزف راتسنغر , لقاء بين عملاقين في الفكر يمثلان العقل والدين , فماذا قالا ؟

في ورقة هابرماس المعنونة بـ: الأسس القبل السياسية للدولة الديمقراطية , يقول في ختامها : من اللازم على الوعي الديني أن ينجح في صيرورة اندماجية في المجتمع الحديث . ويعتبر كل دين في الأصل ((تصوراً عن العالم)) أو ((فهماً عقائدياً)) يطالب بحقه في السلطة لكي يبني شكلاً من أشكال الحياة في كليته . لكن على الدين أن يستغني عن هذا الحق والحق في إحتكار التأويل وتنظيم الحياة الشامل نظراً لشروط علمانية العلم ومحايدة سلطة الدولة والحرية الدينية الشاملة . وقد انشطرت حياة الجماعة الدينية عن محيطها الإجتماعي مع التقسيم الوظيفي للأنساق الجزئية للمجتمع . ويختلف دور التابع لجماعة دينية ما عن دوره كمواطن ما في المجتمع . وبما أن الدولة الليبرالية في حاجة الى الإندماج السياسي للمواطنين , وهو إندماج يتعدى نمط عيش ما فإنه لا يحق لهذا التمييز في الإنتماء أن يؤدي بالإيتوس الديني تحريف هذا الحق في الاندماج لصالحه . أكثر من هذا فإنه من اللازم على نظام الحق الكوني وأخلاق المجتمع المتساوي أن تنضم لإيتوس الجماعة الدينية , لكي ينطلق الواحد من الآخر . وقد إختار جون راولز لهذا نظاماً خاصاً : (( يجب على نظام العدل العالمي , بغض النظر عن كونه تأسس بمساعدة أسباب دنيوية محايدة , أن يخد مكانه في كل أسباب التأسيس الأرثوذكسي)) .

هابرماس الذي وضح بشكل لا لبس فيه أن الدين لا مكان له في السلطة وتنظيم الحياة بسبب علمانية العلم وحياد الدولة والحرية الدينية لو عرف ما يمارس بإسم فكره وفلسفته في السودان ومن ما بعد العلمانيين العرب لربما أطلق رصاصة على أم رأسه !

والمثير للدهشة والمضحك المبكي هو رد راتسينغر بصفته ممثلا للدين في رده على هابرماس كممثل للعقل في ورقته المعنونة بـ: ماذا يوحد العالم ؟ أسس الحرية الماقبل السياسية لدولة حرة . من استنتاجاته في نهاية الورقة نقتبس :

وبناء على هذا يستحسن الحديث عن العلاقة المتبادلة بين العقل والإيمان , بين العقل والدين , المطالبين بالتنظيف والتطبيب المتبادل لبعضهما البعض والاعتراف المتبادل ببعضهما البعض . ولا بد من تطبيق هذه القاعدة الأساسية في ميدان تعدد الثقافات في وقتنا الحاضر . ليس هناك شك في أن الشريكين الرئيسيين لهذه العلاقة المتبادلة هما الإيمان المسيحي والعقل العلماني الغربي . لا بد للمرء أن يؤكد على هذا دون نزعة مركزية أوروبية . فكلاهما يؤثر في الثقافة العالمية أكثر من أي ثقافة أخرى . لكن هذا لا يعني بأنه يجب على المرء أن يضع الثقافات الأخرى ككمية غير نافعة جانباً . سيكون هذا إعتزاز غربي بالنفس سندفع ثمنه غالياً وندفع هذا الثمن الآن على أي حال . من الأهمية بمكان كذلك بالنسبة لهذين العنصرين للثقافة الغربية الذهاب قدماً فيما بينهما وفي علاقتهما بالثقافات الأخرى في طريق الإنصات المتبادل والعلاقة المتبادلة . ومن الأهمية بمكان كذلك توسيع هذه العلاقة الثنائية بين الدين والعقل في الغرب الى علاقات متعددة مع ثقافات أخرى متفتحة على على هذه العلاقة الثنائية بين العقل والدين في الغرب . وبهذا يكون من الممكن أن يقوم نوع من الصيرورة التطهيرية الكونية , يمكن من خلالها للمعايير والقيم الغربية المعروفة من طرف الجميع أن تستمد قوة جديدة والوصول عن طريق هذا الى قوة إنسانية جديدة يمكنها أن توحد العالم .


يتبين فيما سبق أن راتسنغر رغم أنه ممثل للكاثوليكية إلا أنه لا ينادي بالسلطة الدينية , يعترف بالعقل العلماني الغربي , ينادي بعلاقة بين الدين والعقل بصفة الدين يمنح الإنسان قيمة أنطولوجية وهذه العلاقة ليست متمركزة حول المسيحية بل تشمل كل المعتقدات والأديان والثقافات . (((وقضية الوصاية الأخلاقية على العقل فهذا نقطة مهمة أستفيض فيها في مقال آخر)))


خاتمة


لا أحد يقول أن الحداثة فوق النقد أو أننا نعيش في جنة لا عيب فيها , فالحداثة كان لها سقطاتها الفظيعة مثل الحروب العالمية والجرائم التي ارتكبت بإسم العلمانية , ولكن وجود مضاعفات أو آثار سلبية للحداثة لا يعني ابداً أن لا نحقق حداثتنا , فالدواء له مضاعفات ولكن هذا لا يعني أن لا نتعاطى الدواء … وأن نسعى دوماً لتطوير الدواء وتجنب مضاعفاته , فمعدل حياة البشر ارتفع بشكل كبير مع الثورات العلمية والطبية , وأما بخصوص إنتقاد الحداثة بخصوص الحروب العالمية والإختراعات المدمرة التي اخترعها الإنسان ففي كتاب لستيفن بنكر في جامعة هارفرد مفاده أن البشرية الآن تعيش في أكثر العصور سلاماً … فتاريخ البشرية قبل الحداثة به كثير من الفظائع مثل حرب الثلاثين عام وحرب المئة عام , إن إحساسنا بانعدام السلام الحالي هو وليد وعينا بويلات الحرب وتطور وسائل الإتصال والإعلام , وعي وتطور أوجدته الحداثة .

النقد ليس قيمة دخيلة على الحداثة , كانط قدم نقداً حاداً للعقل , جون ستيوارت مل في كتابه الحرية قدم نقداً حاداً للديمقراطية بصفتها تقنيناً لديكتاتورية الأغلبية , ونقد الحداثة هي لحظة تاريخية معرفية هامة وضرورية في الدول التي حققت حداثتها , ولكن ما معنى نقد الحداثة في دولة تعيش في العصور الوسطى حتى الآن ؟! ما الهدف من نقد العلمانية في دولة كالسودان ترزح تحت ثقل الحكم الديني ؟! ما قيمة نقد الديمقراطية في دولة كالسودان تنزف تحت وطأة التحالف الديني العسكري الديكتاتوري ؟! ما فائدة نقد العقل في دولة كالسودان لا يزال غارقاً في الجهل والخرافات وانتظار المعجزات ؟! ما فائدة الثقافة والمثقفين إذا كان لسانهم وقلمهم لا علاقة له بالواقع ؟!

في محاضرة عبد الإله بلقزيز التي أشرت إليها سابقاً في هذا المقال شبه ما بعد الحداثيين العرب بالصلعاء التي تفاخر بشعر جارتها , وهو فعلاً وصف في مكانه … قبل أن ننقد الحداثة لا بد أن نحقق حداثتنا الخاصة , الحداثة ليست فقط حداثة أوروبا , اليابان والهند وغيرهما قد حققا حداثتهما , الحداثة حداثات والديمقراطية ديمقراطيات والعلمانية علمانيات … فعلمانية إنجلترا مختلفة تماماً عن علمانية فرنسا , وديمقراطية المواطنة تختلف عن ديمقراطية حقوق الأقليات , فلنحقق ثورتنا الفكرية والمفاهيمية ولنصنع حداثتنا الخاصة , الخطاب المعادي للحداثة حالياً وخصوصاً في السودان إما ممن يقدسون الماضي ويريدون العودة الى الوراء … أو ممن يحتقرون الحاضر ولا يقدرون كل التقدم الذي حققته البشرية والإنسانية حتى الآن …

نصيحتي لكم : دعوكم من هؤلاء وهؤلاء وقوموا إلى حداثتكم يرحمنا ويرحمكم التاريخ .

No comments:

Post a Comment