Monday, July 3, 2017

عن الإضطهاد الديني

والعالم الآن لا يزال يحارب الإرهاب ويعاني منه , ولا زالت مجتمعاتنا ذات الغالبية المسلمة تحاول أن تزيل الشيطنة عن مصطلحات كعلمانية وديمقراطية , وشبابنا بين محاولة سحب بساط الأغلبية المؤدلجة الصامتة من تحت الكهنة الإسلامويين أو يحلم بالهجرة فراراً من الإضطهاد الديني , والنقاشات تدور حول من يمثل الإسلام ومن لا يمثل الإسلام , وهل نحاول إصلاح الدولة الدينية القائمة أو نستبدلها بدولة علمانية لا تتحيز لدين ... قررت كتابة هذا المقال عن الإضطهاد الديني


فعندما نتكلم عن الجماعات الإسلامية المسلحة مثل داعش وأخواتها يجيبك من إختاروا دفن رؤوسهم في الرمال أن الحركات الجهادية المسلحة هي صناعة مخابراتية , خلقتها أمريكا في حربها ضد الإتحاد السوفييتي , وقد تكون هذه الإجابة مريحة لمن لا يرون الصورة الكاملة ... ولكن الحقيقة التي نتعامى عنها أن الولايات المتحدة الأمريكية حين دعمت تعليم الجهاد للشباب والأطفال المسلمين في أفغانستان وأمدتهم بالسلاح فقد إعتمدت بشكل رئيسي على التراث الإسلامي , إن العقيدة التي قام عليها تنظيم القاعدة الذي تفرخ منه تنظيم الدولة الإسلامية ليست أمريكية ... بل هي إسلامية بإمتياز , وغول الإسلام المسلح الذي إستخدمته الولايات المتحدة الأمريكية لتدمير الإتحاد السوفييتي صار له أجندته الخاصة وأصبح تهديداً للعالم أجمع , إن النصوص التي تبني عليها داعش شرعية جرائمها هي ما يدعوا به ائمة الحرمين وهو ما يتم تدريسه في المعاهد الدينية ونسمعه في خطب المساجد والمحاضرات الدينية , بل كثير من المسلمين المعارضين لداعش يعارضونها في بضعة تفاصيل مع الإتفاق في الخطوط العريضة من إقامة الخلافة وتطبيق الحدود ... إحصائيات شتى تثبت أن غالبية المسلمين مع تطبيق الشريعة وفرض الحجاب وإقامة الخلافة , أي أنهم دواعش مع وقف التنفيذ , والآن نرى ونسمع عن مظاهرات في دول علمانية تستقبل المهاجرين لإقامة الخلافة وإلغاء الديمقراطية , وبدأ الغرب في إقفال أبوابه في وجه المسلمين ... لأن القناعة التي تكونت لدى قيادات هذه الدول أن المهاجرين الى هذه الدول لم يهربوا من جحيم الدولة الدينية , بل هم يحملون هذا الجحيم في عقولهم في شكل دين وقناعات ... لذا لم يعد متاحاً لنا رفاهية تجاهل المد السلفي الإرهابي الذي صار سرطاناً يبشر بالخلافة على منهاج النبوة ويتوعد بالويل والثبور لمن يقف في وجه مشروع الخلافة , لأن هذا التيار الفكري يؤسس بشكل ممنهج للإضطهاد الديني كجزء من عقيدة المسلم وقناعاته , وآن الأوان أن نواجه هذه الأفكار والمعتقدات قبل فوات الأوان ...

مقدمة

الإضطهاد الديني هو تجاوز الحد في السلطة والمعاملة القهرية التعسفية , والإضطهاد الديني هو الإضطهاد المنسوب الى سلطة دينية أو مشرعن له دينياً أو ناشيء من تمييز ديني , إن تاريخ الصراع بين الدين والعقل لا يخفى على أحد , من تنكيل الكنيسة بالفلاسفة والمفكرين والعلماء , مروراً بتكفير وزندقة مفكرين وعلماء ومتصوفة في الإسلام ... وهنا سؤال : لماذا يتصارع الدين مع العقل ؟

الدين يطرح نفسه كإجابات مطلقة وأيدلوجيا مغلقة لتفسير العالم مبنية على الإيمان وأعنى هنا بالإيمان هنا التصديق بلا دليل , على عكس العلم بمنهجه التجريبي القائم على التشكيك والبحث عن الأدلة والبراهين , أما الفلسفة قائمة على إستفتاء العقل والإلتزام بالمنطق . في كتاب الأستاذ توفيق الطويل قصة الإضطهاد الديني في المسيحية والإسلام , يضع توفيق شرطين أساسيين للإضطهاد الديني , أولهما : وجود عقول قوية وجريئة تقتحم منطقة الحرام وتفكر في الممنوع وتنكر المألوف , والثاني : أن يكون لرجال الدين سلطة دنيوية للتنكيل بأصحاب هؤلاء العقول ... بمعنى أنه للقضاء على الإضطهاد الديني لا بد من إزالة أحد هذين الشرطين , إما إلغاء التفكير الحر وأن نجد طريقة ما لجعل كل العقول تفكر بالطريقة التي ترضي رجال الديني في السلطة , أو نزع السلطة من رجال الدين لكيلا يحاربوا أصحاب العقول الحرة ويضطهدوهم بإسم الدين .

ويتجلى ذلك جلياً في القرن الخامس بعد وفاة القديس أوغسطين ببضع عشرات من السنين , فرضت الكنيسة الرقابة على المطبوعات وإقيمت محاكم التفتيش وصدرت قائمة الكتب الممنوع قراءتها للمؤمنين وما سببه ذلك من تخلف وتقهقهر للتيار العقلي والنقد العلمي , فكانت للكنيسة السلطة الدنيوية لإضطهاد من يخالفها .

العدمية الدينية

في حركة الإصلاح الديني في في أوروبا إتقد أتباع المذهب البروستانتي حماسة لنصرة معتقدهم , لقد تفانوا في الدفاع عن مذهبهم حتى أنهم كانوا يتقدمون للمواقد التي اقامها لهم الكاثوليك تغمرهم الغبطة والسرور ! كان أحدهم يتقدم نحو النار لتحرقه بسبب مذهبه البروتستانتي وهو يحاول إقناع من حوله بترك الكاثوليكية وإعتناق الروتستانتية ! حتى أصبح الكاثوليك يقتلعون ألسنة البروتستانت قبل إحراقهم خوفاً من سحر هرطقاتهم ...

الديانة البابية أنشأها محمد علي شيراز عام 1844 م , إعتنقت هذه الديانة كثيرون في بلاد الفرس , أعدمت الحكومة زعيم البابية وقيدت مريديه وجردتهم من ثيابهم , إنطلق الموكب ووراءه الجيش وهم يهتفون حماسة : إنا لله وإنا إليه راجعون . إذا سقط طفل كان أبواه يدوسان عليه في مسيرهما ولا يلتفتان خلفهما , بل يحكى أن أحد الحراس هدد أحد المريدين بقتل إبنه إن لم يرتجع عن دينه ... فإذا بالمريد ينطرح على الأرض مستخفاً بالتهديد طالباً الموت وإبنه يرجو الجندي أن يقتله أولاً ثم أن يثني بأخيه الصغير ...

إن البروستانت والبابيين هم غيض من فيض أمثلة كثيرة للعدمية الدينية , وفي عالمنا وحاضرنا المعاصر فإننا محاصرون بنوع خطير من العدمية ألا وهي العدمية الإسلامية ...

تطور العلوم والحداثة أدى الى نشوء تيار فلسفي يسمى بالعدمية , أجمل وصف لها هو ما قاله ماكس فيبر : نزع السحر عن وجه العالم . فلم يعد هناك مكان للأشباح أو القوى المتعالية , صار الإنسان يرى العالم بشكل أوضح ويعرف عنه أكثر بعد إن أزاح الغيبيات وخوارق الطبيعية من أمام عينيه ... ولكنه في المقابل رأى عالماً يعوزه المعنى , فلم يعد هناك معنى طالما أن الفناء هو المصير , وطالما أن التحولات والتغييرات التي نراها ليست إلا تمظهرات للعدم ... ولكن هذه العدمية لم تكن دعوة لنشر البؤس والإحباط , فإدراك الإنسان للعدم هو ما جعله إنساناً وإرتقى به عن الحيوان , وطالما أن أدركت أن لا تمتلك سوى هذا العالم فلتعش فيه قدر المستطاع كأسعد ما يكون ولا تسمحن لأحد أن يسرق عالمك بأن يعدك بعالم آخر , والحقيقة المؤلمة خير من الوهم الجميل ...

أما الإسلام كدين يقدم معنى للحياة ومواساة للمؤمن , فالمصير هو الجنة والنعيم مع الله , الخير هدية حب من الله والشر إمتحان وإبتلاء لمن أحبه الله , كل ما سيحدث لك هو الخير ولو تملكت السلطة فلن تختار سوى واقعك ... أفكار وقناعات تبعث الطمأنينة في نفس المؤمن بها , حين تعتقد يقيناً أن وراء كل الأحداث المؤلمة خيراً ومحبة وأن هذا العالم العبثي ليس سوى محطة قصيرة وإن طالت ...

المشكلة التي نواجهها الآن هو فيض المعنى عند الإسلاميين فيما يظهر كنوع جديد من العدمية , عدمية إسلامية مفادها أن هذا العالم بلا معنى طالما أن هناك عالماً آخر , فمثلا الخوارج المنسوبين الى نافع بن الأزرق المعروفين بالأزارقة كانو يبيحون قتل نساء وأطفال من لا يشاركهم مذهبهم , ولسن حالهم يقول كل شيء مباح طالما أن الله معي ! إن إعطاء معنى للحياة بجعلها معبراً الى عالم آخر وليست غاية في ذاتها ولد لدى المتعصبين دينياً ولد لديهم عدمية إسلامية من فيض المعنى ... فلا قيمة لحياتي طالما أنني سأدخل الجنة , ولا قيمة لحياتهم طالما سيدخلون النار , ولا قيمة للوطن طالما أنه لا يطبق الشريعة , ولا قيمة للأهل والأصدقاء إن لم يكونوا مؤمنين ... وهكذا يصبح المؤمن العدمي موقن بأن كل ما حوله وهم وأن ليس لديه ما يخسره , فالمضطهد (بكسر الهاء) يضطهد قرير العين وهو يعلم أن ينفذ مشيئة الإله ويضطهد كافراً نزعت الطبقية الدينية إنسانيته وحقوقه , المضطهد (بفتح الهاء) يفيض بهجة وسروراً ليقينه أن إضطهاده هو مفتاح إنقاذه من وهم هذه الحياة عديمة المعنى ومفتاح سعادته في العالم الآخر .


القداسة للإنسان

في عدة نقاشات لي مع إسلامويين يطرح سؤال أعتقد أنه مهم وأنه يستحق إجابة جادة , والسؤال هو : لماذا تدافعون عن الوطن ؟ الوطن بحدوده السياسية ليس سوى قرارات عدة أشخاص توافق الناس عليها ... لماذا تنكرون علينا دفاعنا عن الدولة الإسلامية وهي مطلب إلهي وتدافعون عن الوطن وإختراع بشري ؟!

سؤال وجيه وأجيب عليه بكلمتين : القداسة للإنسان

إن الإنسان حسب ما تعلمناه من التاريخ قد عبد ظاهر الطبيعة أولاً , ثم صنع رموزاً للآلهة وعبدها , ثم تغيرت فكرة الآلهة الإقليمية وظهرت فكرة الإله العالمي الواحد .

لجأ الإنسان الى الدين ليجد معنى لحياته ويفسر ما عجز عن تفسيره حينها , ولكن هذه الراحة التي وفرها الدين لم تأت بلا مقابل ... تحول الدين الى مؤسسة قمعية تعسفية وطبقية بغيضة وآيدلوجيا مدمرة , فما كان من الإنسان إلا أن فكك الدولة الدينية وقلم أظافر رجالات الدين وظهرت الدولة الوطنية الحديثة التي يكون الإنتماء فيها بالمواطنة ولا تمييز على أساس الدين .

ظن الإنسان حينها أو ما زال يظن أن تمييز الجنسيات أقل وطأة من تمييز الدين , فالدين مطلق لا يعترف بغيره ... ولكن مع الأسف ولا أدري هل هي طبيعة الإنسان أم ماذا ولكن تحول الوطن الى دين جديد , فكان الإنسان الذي يضطهد الأديان الأخرى بإسم دينه صار يضطهد الأوطان الأخرى بإسم وطنه , وكما كان يقتل ويدمر بإسم الدين صار يقتل ويدمر بإسم الوطن ...

إن سألتني كليبرالي أنادي بدولة ديمقراطية عن سبب رفضي للدولة الدينية فالسبب هو أن المقدس الحقيقي في نظري هو الإنسان , والدولة صنعها الإنسان لأجل الإنسان لا لأجل الآلهة , فالدين إن لم يخدم الإنسان وصار دماراً على البشرية رفضته أياً كان , وكذلك الوطن إن كان سجناً وقيداً ومبرراً للقتل والدمار رفضته ولا أبالي ... وهنا لا أنكر على الإنسان هويته أو حوجته للإنتماء , ولكن ربما يأتي يوم يكون لهذا الكوكب حكومة عالمية واحدة , ربما تلغى الحدود بين الدول وتكون الجنسيات هويات ثقافية لا حدوداً سياسية , وها هي الدول تنفصل وتتحد وها هي الحدود السياسية تتغير وتتبدل ويبقى الإنسان إنسانا ... وحينها لن أرفض ولن أعترض , فلا دين بلا إنسان ولا وطن بلا مواطنين والدين والوطن إن لم يكونا خيراً فهي أصنام لا تستحق العبادة ... ولا قداسة إلا للإنسان .


الدين كمبرر للإضطهاد

قال القديس ترتليان 220م في دفاعه عن المسيحية وهجومه على الفلسفة : إنا بريئون من الذين إبتدعوا مسيحية رواقية أو أفلاطونية أو جدلية , بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة الى شيء .


وكما تشهد مذبحة كنعان ومذبحة كهنة بعل , لقد كانت مراسيم موسى أول دستور إضطهاد ديني بين البشر , حيث نصت أن عبادة الأوثان ليست خطيئة فحسب , بل جريمة لا يكفر عنها إلا بالدم !

ومن أشد الأمثلة وضوحاً للتبرير للإضطهاد من داخل النصوص الدينية هو القديس أوغسطين , فصاغ أوغسطين مبدأ الإضطهاد لهداية الأجيال القادمة من كلمات المسيح حين قال لحوارييه : أجبروهم على إعتناق دينكم . وقد قرر أوغسطين أنه يجب معاقبة الملحد بالجلد أو النفي أو الغرامة طالما أن هذه العقوبة تحميه من العقاب الأبدي , وإن كان العهد الجديد يخلو من إستخدام القوة والعنف لنشر الدين فقد برر اوغسطين ذلك بأنه لم يكن هناك أمير يعتنق المسيحية , ولكن ألم يذبح اليشع بيديه أنبياء بعل ؟ ألم يحطم حزقيال ويوشع عبادة الأوثان بالقوة في أقاليمهم ؟ بل إن المسيحيين في وقت ما كانت تمتد عقوبة الملحد الى ابناءه بالوراثة ! فكان الملحدون يحرقون أحياء وتصادر أملاكهم ... وكان أحدهم يتراجع عن معتقده لا إقتناعاً , بل محاولة لإنقاذ أطفاله من هذا المصير المؤلم ... وللأسف جاء تبرير هذه الجريمة من النص الديني أيضا , فكما كانت عقوبة كل ابناء آدم بجريرة أبوهم آدم عدالة إلهية فقد كانت جرائم الكنيسة في ابناء الملحدين عدالة أيضاً .

وهنا يكمن الخطر في التأصيل للأخلاق من داخل الدين , اليهود مرت عليهم أوقات حرب وأوقات سلام ... فمثلا هناك الثورة اليهودية على الرومان , وهناك الإستقرار اليهودي المؤقت في فلسطين بعد السبي البابلي ... المتأمل في نصوص الديانة اليهودية يجد أن فيها نصوصاً تدعو الى السلم والتعايش ونصوصاً تدعو الى الحرب وسفك الدماء , وأي نص يمكن إستخدامه كذريعة للتعايش والسلام أو العكس كما إستخدمت عصابة الكلان المسيحية لإرتكاب أبشع الجرائم , ولكن لكي يكون النص المقدس مؤثراً إيجابياً ودافعاً نحو التعايش والسلام لا بد من تأويل النص الديني وتجديده كما فعل الفليسوف فيلون السكندري وتأويله الرمزي لقصص التوراة .

ولكن لا يمكن بأي حالة من الأحوال الإعتماد على الدين عموماً والإسلام خصوصاً بشكله التاريخاني التراثي المرتبط بتاريخ مليء بالحروب والدمار , ولكن كما وقت القديس ترتليان ضد التجديد المسيحي هناك من يقف ضد التجديد الإسلامي , وكما إستخدم أوغسطين العهد القيد لتبرير الجرائم الدينية ضد المسيحيين هنا من يستخدم النصوص الإسلامية لتبرير الجرائم الدينية ضد غير المسلمين ... من ذلك شرح النووي لصحيح مسلم في حديث (هم منهم) , فالحديث لا يبيح فقط قتل النساء والأطفال بالخطأ حالة الإغارة على الكفار , بل يبيح الإغارة على كل من بلغتهم الدعوة دون إبلاغهم بذلك ! والمبرر أن حكم أطفال الكفار في الدنيا كحكم آبائهم .

الحسبة ومراقبة الضمائر

في كتاب يوسف زيدان دوامات التدين يبدأ مع الحسبة , وهي وظيفة ظهرت في عهد الخليفة مأمون بن هارون الرشيد كأمر تنظيمي ذو صبغة إجتماعية وسياسية , وكانت وظيفة مراقبة أو يمكن أن نشبهها بمراقبة الجودة في زمننا الحالي , فالمحتسب يراقب الأسواق منعاً للغش ومكافحة الإحتكار ومراقبة ممارسة الأطباء والعطارين والمواد التي يستعملونها . ولكن وظيفة المحتسب في نهاية العصر العباسي والمملوكي والعثماني صارت مراقبة على التدين والضمائر تحت مسمى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وبما أن الخليفة هو ظل الإله في الأرض والمنفذ لمشيئته والمدافع عن دينه فإن المحتسبين لم تحكمهم سلطة أو قانون ... فكان المحتسب يردع ما يراه منكراً دون أن يعود لأحد , أو يمارس سلطته على القاضي أو الشرطي إن رآهما منحرفين ... ويرى يوسف أن وظيفة الحسبة هي الأصل التاريخي لوظيفة الأمن السري أو المخابرات ...

السلطة الروحية وتمظهراتها

مراقبة الضمائر ووضع السلطة في يد رجل الدين لم تبدأ رجال الحسبة , ففي بداية المسيحية المبكر إرتد كثير من المسيحيين لأسباب إجتماعية وسياسية , منهم من أراد العودة الى الدين فإصطدموا بآراء رجال الدين المسيحيين , فمنهم من كان متسامحاً مع عودتهم ومنهم من رفضها رفضاً قاطعاً بعد إرتدادهم ... وأدى ذلك الى خلق نوع من الطبقية الدينية في الوعي المسيحي , وتم تقسيم المسيحيين الى مؤمنين وموعظين كبار وموعوظين صغار وكفار ... والموعوظ هو الذي يريد العودة الى الدين ولكن تختبره الكنيسة وتحدد مكانته وهل تتم ترقيته أم لا ! وكانت هذه التقسيمات هي السبب الرئيسي الى تفرق الديانة الى مذاهب وجماعات وطوائف ... وهذا ما يقوم به الحكم الديني بإمتياز , قال شهيد الفكر والكلمة الدكتور فرج فودة : إن القرآن لا يفسر نفسه , والإسلام لا يطبق نفسه , بل يتم ذلك عن طريق المسلمين ... وهذه المعلومة لا تخص الإسلام وحده بل تمتد الى سائر الأديان والمعتقدات , الدين مهما كان متسامحاً لا يكن أن يساوي بين الجميع ... فلا بد من تمييز بين المؤمن وغير المؤمن وإلا فلا جدوى من الإيمان , وهذا التمييز الديني المحتوم يقسم البشر الى مؤمنين وكفار وتصبح كلمة كافر ليست موقفاً عقائدياً مشروعاً بل كلمة تحمل عدداً من المعاني السالبة وتعني الدونية في الطبقية التي يفرضها الدين ... ثم يأتي التعصب الذي يغذيه الإحساس بالفوقية عند من يرى نفسه في قمة الهرم الديني والذي يبرر شتى أنواع الإضطهاد ... نرى هذه الفوقية عندما يحتمي الدين بالسلطة وتتصرف السلطة على الهوى الديني , فقانون إزدراء الأديان لا يحمي كل الأديان , فلم نسمع عن قضية إثيرت ضد إهران الشطان إحتراماً لعبدة الشيطان مثلاً ! ولكن القانون يحمي دين السلطة أو سلطة الدين , ومثال ذلك المعتزلة حين أقنعوا الخلفاء العباسيين بقضية خلق القرآن وجعلها من صحيح الدين وصار الخلفاء العباسيون يحاربون من خالفوا المعتزلة وقالوا بأزلية القرآن ومحنة إبن حنبل مع المأمون والمعتصم , وإستمرت هذه المحنة حتى طالت البخاري ومسلم .

الدين محتميا بالسلطة

رغم أن المعتزلة كانوا متفوقين في مناظراتهم مع السنة إلا أن سبب تفوقهم الحقيقي كان وقوف السلطة الى جانبهم وتمكينهم من مناصب حساسة في الدولة ومنها القضاء , ولكن كما كانت السلطة هي سبب تفوق المعتزلة كانت هي أيضاً سبب نهايتهم , وبدأت النهاية مع خلافة المتوكل ... في تاريخ الطبري يذكر أن المتوكل قد أمر بمنع الجدال والمناظرة في قضية خلق القرآن , ثم إستمر إبعاد المعتزلة التدريجي عن القضاء ومراكز القوة حتى جاءت الضربة القاضية للمعتزلة من الخليفة العباسي القادر بالله ... حيث إستتاب فقهاء المعتزلة فتبرأوا من مذهبهم خوفاً على حياتهم , ويذكر إبن كثير في البداية والنهاية أن محمد بن سبكتكين إمتثل أمر أمير المؤمنين في بلاد خراسان التي إستخلف فيها , فقتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم في المنابر وصار ذلك سنة في الإسلام . ويقول حسن زهدي جار الله واصفاً في كتابه الكعنزلة واصفاً إياهم : إستبقوا الزمن وإستعجلوا الأمور , فأرادوا في زمن دولتهم أن يحققوا ما لا يتحقق إلا بالإقتناع , وأن ينجزوا في برهة وجيزة ما قد يتطلب قروناً .

لو كان الصراع الفكري بين المعتزلة ومن خالفهم صراعاً فكرياً دون تدخل من السلطة , من يدري ماذا سيتغير ... ربما يكون أغلبية المسلمين من المعتزلة , ربما يكونون طائفة دينية معتبرة ذات غالبية في منطقة ما أو عدة مناطق ... ولكن المعتزلة أرادوا أن ينتصروا على أعدائهم مستعينين ببطش السلطة وإضطهادها , وتشاء سخرية الأقدار أن يكون إضطهاد السلطة الدينية الذي كان السبب في إنتصارهم المؤقت ذو الأمد القصير هو ذاته السبب في نهايتهم ونهاية تيارهم .

الدين مصدراً للسلطة

القضية ليست ممارسة السلطة للتمييز والطبقية الدينية , بل إحساس الفوقية الدينية الذي يولد التعصب يعطي إحساساً للمتعصب بالسلطة الإلهية الممنوحة له والواجب الملقى عل عاتقه بحكم موقعه المرتفع في الطبقية الدينية , فالخوارج حين قتلوا علي بن أبي طالب وحاولوا أن يغتالوا معاوية بن أبي سفيان لم يتم منحهم أي صلاحيات من أي شكل من أشكال السلطة ... ولكن إحساسهم بالنقمة على رؤوس الفتنة تترجم الى تكفير وحكم بالموت ووضعوا على عاتقهم من أسموهم لاحقاً بالخوارج بحكم فهمهم الصحيح للدين وشجاعتهم لفعل ما ينبغب فعله أن ينفذوا حكم الله على علي ومعاوية .

وكذلك ما فعله أتباع إبن حنبل مع الطبري , فحين سأل أتباع إبن حنبل الطبري عن رأيه في حديث الجلوس على العرش وفي الإمام إبن حنبل , وحين رد عليهم الطبري بأن المقام المحمود في الآية هي الشفاعة ومن المحال أن يجلس النبي على عرش الإله وإن الإمام أحمد بن حنبل إمام في الحديث وليس في الفقه ... ثاروا عليه ورموه بالحجارة ختى إلتجأ ببيته , فرموا باب بيته بالحجارة حتى إجتمع عن بابه تل عظيم , وذهب صاحب الشرطة الى بيت الطبري ومنعه عن الخروج الى العامة ولم يكن مسموحاً لأحد أن يزوره , وبقي محبوساً في بيته الى أن مات ودفن في بيته لأن الحنابلة منعوا دفنه نهاراً ! ولم يشفع للطبري عن الحنابلة أنه كان مؤيداً لإبن حنبل إبان إختلافه مع المعتزلة ...

يتضح من ما سبق أنه لا يكفي نزع السلطة من رجال الدين وأن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان والمعتقدات , بل يجب أيضاً أنسنة وعلمنة الدين ... بحيث لا تتكون قناعة لدى طائفة أو فرد أن دينك أو معتقدك يمنحك الحق في إضطهاد المختلف معك دينيا , فهذه القناعة هي أصل الإرهاب والتعصب وهي ما سيجعل الفرد أو الطائفة المتعصبة تتحدى الدولة والقانون لتطبق ما تراه أنه صواب وحق كما في حالة الخوارج والحنابلة .

الإضطهاد الديني , متى ينجح ومتى يفشل ؟

بيننا في المقال أن اللإضطهاد الدين يتطلب سلطة لقمع المخالف للهوى الديني لصاحب السلطة أو طالبها , قد تكون هذه السلطة ممنوحة من الدولة لرجال الدين , أو قد تكون سلطة غالبية مثل الحنابلة وإضطهادهم للطبري أو قد تكون سلطة ذاتية يمنحها فرد لنفسه أو فئة لنفسها ومثال ذلك الخوارج .

ونختم بسؤال : متى ينجح الإضطهاد الديني ومتى يفشل ؟ لماذا فشل إضطهاد اليونانيين للمسيحية بينما نجح إضطهاد المسلمين في إسبانيا ؟!

المسلمون الذين رفضوا الإذعان الى الإضطهاد الديني غادروا البلاد الى حيث يجدون الأمان , ففي عام 1609 و 1610 تم إجلاء الوف المسلمين بعد أن إضطهدتهم الكنسية وسفكت دمائهم ونشأت الأجيال التالية على الإيمان المسيحي .

نستطيع من هذه الحادثة أن نضع شرطين أساسيين لنجاح الإضطهاد الديني ...

الشرط الأول : هو أن يهدف الإضطهاد الى الإبادة الشاملة لفكرة أو معتقد أو تيار معارض أو مخالف لسطة الإضطهاد

الشرط الثاني : أن يعمل الإضطهاد على أدلجة وقولبة الأجيال القادمة بحيث تكون متسقة ومتوافقة مع أفكار ومعتقدات السلطة المضطهدة

وهذان الشرطان يلخصان ما حدث ويحدث في الدولة الدينية , فالدولة الدينية بدستورها وقوانينها التي لا تعترف بحرية شخصية أو حق إنساني , فما بين حد الردة ومراقبة الضمائر والمحاكمات بالزندقة والهرطقة يكون أمام من يعارض الدولة الدينية إما الموت أو الهجرة أو الإنصياع والخضوع لإضطهاد الدولة .

وبمصادرة الأفكار والحريات من مصادرة الصحف وإقفال القنوات وإعتقال أصحاب الرأي والكلمة , فلا يكون في الدولة صوت مسموع سوى إعلام الإضطهاد وتعليم الإضطهاد لينشأ جيل لا يفكر إلا على ما نشأ عليه من ثقافة الإضطهاد ... يمارس الرقابة الذاتية ويمارس الإضطهاد على ذاته لينتج جيل قادماً آخر وليد ثقافة الإضطهاد وتستمر الدائرة الجهنمية من الإضطهاد المتوارث المشرعن دينياً وثقافياً .

لذا حين نطالب بالدولة العلمانية فإننا نطالب بدولة تنتفي فيها شروط الإضطهاد الديني , فلا يكون هناك إضطهاد لأفراد أو أقليات ويكون القانون حامياً لهم , وأما تعليم وإعلام الدولة فلا ينتصر لمعتقد على معتقد ولا يؤدلج جيلاً لتيار ضد تيار , وتكون كل الإفكار والمعتقدات قابلة للطرح والنقد والتغيير .

1 comment: