Sunday, November 20, 2016

القداسة والتغيير

رغم ان السودان رزح أكثر من ربع قرن تحت وطأة حكم ديني عسكري راديكالي إلا أن اليسار السوداني لم يرتق الى المستوى المرجو منه ولم يقدم خطابا متماسكا يخرج السودان من أزمته الحالية , صحيح أن قطاعات كبيرة من الشعب السوداني قد أفاقت من وهم شعارات الحركة الإسلامية ولكنها لا تزال مؤمنة بشعار الإسلام هو الحل , وهذا يعني أنهم ما زالوا طامحين الى الدولة الدينية وأن تجربة الحركة الإسلامية ليست إلا خطأً في التطبيق ... وهذا يعني أن السودان لا يبدو أنه سيخرج من دوامة الحكم الديني قريباً , بل الأدهى والأمر أن شيطنة العلمانية التي مورست من قبل الإسلاميين منذ نشأة الحركة الإسلامية حتى الآن لم تؤثر فقط على عامة الناس ... بل على الأحزاب العلمانية ذاتها ! فها هي أحزاب يسار سودانية عريقة خطاباتها خطابات دينية بإمتياز , ولا ننسى شباب الإسلاميين الجدد الذين يطرحون نفس مشاريع ومخططات الإسلام السياسي بشكل منمق وجديد ... بل الآن تتعالى أصوات بالإنتقال من الحكم الديني المتطرف الحالي الا حكم ديني أشد تطرفا تحت مسمى الخلافة , وكل المذكورين أعلاه سواء كهول الإسلاميين أو شبابهم الجدد أو الدواعش يتبرأون من بعضهم البعض رغم أنهم يتفقون في كل الخطوط العريضة ... بعد هذه الصورة القاتمة , كيف يتجه السودان نحو اليسار ؟ طيف نصل الى الدولة العلمانية الديمقراطية التي نبحث عنها ؟ ولماذا نجد قطاعات واسعة من السودانيين يحصرون خياراتهم بين سندان الإسلام السياسي ومطرقة الخلافة ؟
هذا المقال هو محاولة مني لوضع يدي على المشكلة وإيجاد الحل , وأنا هنا لا أحاول المزايدة على المعارضة العلمانية في السودان أو الإنتقاص من قدرها ... ولكنها كلمة من قلم متواضع مشفق على الإنسان السوداني , وأتمنى أن تجد كلماتي لديهم أذناً صاغية وصدراً رحباً

العقل الديني والعقل العلمي
عندما يواجه الطرح العلماني برفض متعنت من قطاعات داخل المجتمع السوداني لا بد أن نسأل أنفسنا : لماذا ؟
لماذا يكون أحدهم علمانياً أو لا يكون ؟ إجابة هذا السؤال تكمن في التمحيص في عقل المتلقي للخطاب , في التفريق بين العقل الديني والعقل العلمي ...
فقد ترى كعلماني أنه من البداهة والعقلانية أن يتم فصل الفضاء العام عن الفضاء الخاص , أن لا تتدخل الدولة في تدين المواطنين , وأن لا يستخدم الدين سياسياً ... بينما يرى آخر أن هذا لا يمت الى العقلانية بصلة ! أن تدين االأفراد وضبطهم في أس وظيفة الدولة وأن الدين سياسي بإمتياز ! لماذا هذا التباين في وجهات النظر ؟ الجواب يكمن في الإختلاف بين العقليتين ... فالعقل الديني و العقل العلمي يختلفان في مصادر المعرفة وأدوات إستخراجها وشروط قبولها . وقبل أن نتعمق أكثر في هذه القضية لا بد أن نعي ونعترف بالإشكال الكبير في العلاقة بين العلم والدين , فالدين في المجتمع السوداني ليس تجربة روحية أو علاقة خاصة بالإله ... الدين يقدم تفسيرات وإجابات عن نشأة الكون وكيف يعمل ويحكم علاقة الإنسان المسلم بالآخر وبالمجتمع ويتدخل في كل الشؤون والقضايا سواء كانت علمية أم لأ . فالعقل الديني هو العقل الذي يؤمن بأن النص المقدس هو الحقيقة المطلقة وأن التعامل مع النص له أدواته وطرقه الخاصة , وأن كل ما خالف النص لا يمكن أن يكون حقيقة أو أن يقبلها العقل ... وهنا يحدث الصدام بين العقل العلمي والعقل الديني , فالعقل العلمي هو العقل الذي يستخدم البحث والتجربة في البحث عن الحقيقة , يستخدم الإستقراء والإستنباط والإستنتاج ويقبل الحقيقة التي يصل إليها مدعمة بالأدلة والبراهين ... ولا عزاء لمن يرددون الإسطوانة المشروخة : الدين والعلم لا يتعارضان , فالتعارض بينهما واضح جلي ... ومن الذين كتبوا عن هذا الإشكال بشكل جيد الدكتور صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني , يتكلم الدكتور في البداية عن الثقافة العربية وبؤس الفكر الديني ويقتبس من عدة كتب تحاول أن توفق بين ما أتانا به الدين وبين ما إكتشفه العلم , من هذه الكتب كتاب الفجوة المفتعلة بين العلم والدين , يقول فيه الكاتب : إن لم يكن الغرض الأساسي من المناهج الدينية - بالثانويات خاصة - هو تحري مواطن الخطر , ومكامن الألغام فيما يدرسه الطالب في المواد الأخرى - كنظرية التطور في العلوم , والحريات العامة في التاريخ - الثورة الفرنسية خاصة ! ودوران الأرض أو كرويتها في الجغرافيا الخ الخ .. ما لم يكن منهاج الدين الحارس الأمين اليقظ الذي يعد العدة لكل ما يغير من جيوش الإلحاد التي تتسرب الى عقول الطلبة من محيطهم الثقافي العام . إنتهى
فيرى كاتب كتاب الفجوة المفتعلة بين العلم والدين في الإقتباس أعلاه أن مواطن الخطر ومكامن الألغام هي نظرية التطور والحريات العامة والثورة الفرنسية وكروية الأرض ودورانها ! إن هذا الإقتباس هو الشرح المبسط الواضج جداً للعقل الديني وكيف يتعامل مع العلم , إن كروية الأرض ودورانها لم يكتشفهما العقل الديني , فقد رضي العقل الديني بالحقيقة التي أتى بها النص وهي أن الأرض مسطحة وثابتة ولا تدور ... بينما العقل العلمي المشكك والباحث لم يرض بهذه الإجابة دون أن يبحث عن أدلة وبراهين , وحين إكتشف العقل العلمي أن الأرض كروية وتدور إصطدم العقلان ... لأنهما ينطلقان من مصادر مختلفة ويستخدمان أدوات مختلفة ووصلا الى نتيجة مختلفة , إن هذا الإختلاف في أسلوب التفكير والنتائج يفسر كثيراً من الأحداث على مدى التاريخ من محاولات لتحديد ما هو أصل في الدين وما هو فرع , ومابين تنازل الدين تحت ضغط الإكتشافات العلمية المستمرة والبحث لها عن أصل في الدين , فتجد مسلما قرأ آية (كونوا قردة خاسئين) يؤمن بأن مجموعة من البشر قد تحولوا الى قردة في لحظة , بينما يرفض نظرية التطور وأن الإنسان والقرن لهما سلف مشترك وأن تغييرات قد طرأت على هذا السلف المشترك خلال آلاف السنين ... إن هذا الموقف المتناقض من وجهة نظر العقل العلمي لا تناقض فيه من وجهة نظر العقل الديني , فقبوله لتحول الإنسان الى قرد لا يستند الى تفسير علمي ... كما أن رفضه لنظرية التطور ليس رفضا علميا حتى لو تم إسباغ المظهر المنطقي والعقلاني عليه , فنظرية التطور علميا متماسكة اكثر من التفسير الديني لنشأة الإنسان , إن الرفض المذكور هو رفض ديني ... لأن العقل الديني لا يعترف إلا بالنص ولا يقبل ما يخالفه , لذا فمحاولة محاججة العقل الديني بمصادر يراها دون النص هي محاولة فاشلة لا محالة , وهنا يظهر غياب الأمانة العلمية والإستغلال الإنتهازي للعلم لصالح الدين ... فنحن لا نتعامل مع العلم بشكل محايد بعيد عن عواطفنا الدينية , بل نأخذ منه ما يوافق الدين أو ما سكت عنه الدين , لقد إستوردت مجتمعاتنا المستهلكة كل منتوجات العلم ولكنها لم تستورد العقل العلمي الذي أنتجها ... عندما نطرح سؤالاً مثل : ما الذي يحرك السحاب ؟ يجيب العقل العلمي : الرياح , بينما يجيب العقل الديني : ملائكة بمخاريق من نار مستنداً على حديث في صحيح البخاري , العقل العلمي يبني طرحه على أننا حين نريد رصد حركة السحب فلا مجال للبحث عن ملائكة أو مخاريق نارية ... بل أن نرصد حركة الرياح , وهذه الإشكلة التي ولدها الصدام بين الإجابتين تتطلب منا أن نأخذ موقفاً ... إما أن نتحلى بالأمانة العلمية ونقبل الإجابة المدعمة بالأدلة والبراهين , وإما أن نحاول التوفيق بين الإجابتين , وإما أن نرفض الإجابة العلمية ونكفر العقل العلمي ... والمصيبة أن كلمة كافر لا تساوي كلمة مخطيء أو مخالف للحقيقة , فلو قال لك كافر أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان ابداً ورددت عليه بقولك : أنت كافر ! فردك هذا لا يثبت أن ما قاله خطأ , ولكننا مع الأسف نحكم عواطفنا الدينية والولاء والبراء على أساس الدين لا العلم .
تكمن الإشكالية أن تعامل العلماني مع الوضع المذكور أعلاه , فالعلماني لا يحاول التأسيس للعقل العلمي كما أسس الإسلاموي العقل الديني وإستند عليه ليصل الى السلطة , بل يحاول العلماني أن يسترضي العقل الديني وأن يخاطبه بالخطاب الذي يرضيه , بعمنى أن العلماني يتحرك في ملعب الإسلام السياسي ويلتزم بشروطه , وقد ضرب دكتور صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني أمثلة توضح هذا المعنى ... نذكر منها :
لا ينفي شيئاً مما زخرت به بطون المجلدات في فقهنا الإسلامي من اراء ناضجة في النظم الإقتصادية , وقواعد العدالة الإجتماعية , ومن ميل واضح الى ضرب من الإشتراكية المؤمنة البناءة التي لا تحجد قيم الروح (كتاب الإسلام والمسيحية في لبنان صفحة 196)
إن على علماء الأمة الإسلامية والمجاهدين في سبيل رفعة الإسلام وتبيلغ دعوته للناس أن يبينوا حكم الإسلام هذا في جميع المساجد أيام الجمع والأعياد , حتى يسارع المسلمون عن معرفة لمبايعة الفيصل لأن مبايعته الآن أصبحت فرضاً لازماً عليهم لا بد من تأديته بعد أن أقر علماء المملكة العربية السعوديةعقد إمامته . وعليهم أن يحققوا وجودهم كعلماء بأن يدعموا الفيصل كإمام للمسلمين , وأن يطالبوه بإنشاء حكومة خلافة , كما عليهم دعوة الحكام للمسارعة بالإنضمام لمجلس الخلافة المقترح الى أن يتم عملياً ضم جميع الدول الإسلامية الى حظيرة الخلافة . (مجلة الفكر العربي بيروت ايار 1969 العدد 4 صفحة 32)
ونبني مستهدفين المقاصد الإلهية لسعادة الإنسان وخيره , التي استخرجها علماء الأصول من كتاب الله كمقاصد للشرع , اي بناء قانوني أو سياسي أو إقتصادي أو إجتماعي , يبنيه الإنسان وهي :
اولاً المحافظة على النفس الإنسانية وحمايتها
ثانياً المحافظة على الدين أي حرية الإعتقاد
ثالثاً المحافظة على الأسرة
رابعاً المحافظة على العقل اي على حرية التفكير وسموه
خامساً المحافظة على المال أو على الملكية الخاصة الخلاقة للخير
هذه هي مقاصد البناء التي أجمع علماؤنا على أن الله يلزمنا بها . وأما أشكاله وتنظيماته ووسائله , فنحن أحرار في أن نختار لها البنية التي تؤدي لتحقيق هذه المقاصد . (المسيحية والإسلام في لبنان صفحة 156)
ماذا نستنتج من الثلاث إقتباسات المذكورة أعلاه ؟ هل الإسلام هو الخلافة أم الإشتراكية أم الرأسمالية ؟ هل يجب أن نبايع فرضاً أم أننا أحرار أن نختار نا يلائمنا ؟ هل الإسلام مع الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أم مع التأميم ؟ هذه الأمثلة الثلاثة هي غيض من فيض ونقطة من بحر إضفاء القداسة على الطرح السياسي وإستجداء العقل الديني , قالعقل الديني لا يسأل هل هذا الطرح متماسك أو عقلاني أو سيحقق أهدافي ... بل يسأل أولاً : هل هذا الطرح حلال أم حرام ؟ مع النص أم ضد النص ؟ اتفق عليه السلف وعلماء الأمة أم لا ؟
أحد أهم الصعوبات التي ستواجه محاولة تغيير العقول وطريقة تفكيرها هي العنف , وهنا لا بد أن نفصل العلاقة بين ثالوث الدين والسياسة والعنف
جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة
جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة هو عنوان بحث قدمه يوسف زيدان في مؤتمر طشقند عام 1999 الذي تمخض عن إعلان طشقند , ناقش البحث ضاهرة تنامي العنف الديني وحركات العنف السياسي بالدين والفصل بين جوهر الدين وظاهرة العنف الديني , البحث بالنسبة لي يشرح بشكل بسيط آلية العنف الديني وطريقة تفكير العقل الإصولي , تجدون البحث مرفقا مع كتاب اللاهوت العربي للكاتب .
ملخص البحث كما يلي : طبيعة السياسة الأولية جمعية , بمعنى أنها لا تمارس إلا في مجتمع , بينما أن طبيعة الدين الأولية فردية , بمعنى أن الدين هو العلاقة الفردية بين الإنسان والإله , يحدث التقاطع بين الدين والسياسة بأن السياسة لا تستطيع ضبط الجماعة إلا بضبط أفرادها , والفرد لا يؤسس يقينه الخاص إلا من مخزون القداسة للجتمع ومصدره الجماعة .
في البداية يأتي الدين كثورة على الواقع وعلى النظام السائد ومحاولة خلخلة اساساته وتغييره , تواجه محاولة التغيير هذه بالعنف من الطرف المستقر أو السلطة السائدة فيستبسل اصحاب الثورة الدينية ويخرجون بعيدا عن العنف الذي يمارس ضدهم لا هم لهم إلا الآخرة وليست لهم أي مطالب دنيوية , في خروج أصحاب الدين يجمعون حولهم المهمشين والمظلومين والمتمردين ... ثم يعود الدين أقوى الى الصورة في مواجهة الوضع السياسي الراهن مثبتأ أن محاولة قمعه بالقوة قد فشلت , والدين هنا لا يعد بجنة الآخرة فقط بل يعد أيضاً بجنة الدنيا , هنا يتفاوض الدين والسياسة وتنشأ بيئة أكثر موائمة لكليهما ... فتهتم السياسة بالشأن الديني وبناء دور العبادة وتوطين الدين ويضفي الدين الشرعية على الأفعال السياسية , يدخل السياسي مجال الدين لبسط نفوذه السياسي ويدخل رجل الدين السياسة ليبسط نفوذه الديني أو يصبحان رجلاً واحداً ...
ولكن هذا الإتفاق أو تبادل المصالح الديني السياسي لا يخلو من إضطرابات منه الإعتراض على الظلم أو خروج السلطة السياسة عن الأطر الدينية وأشهر مثال على ذلك وليد بن يزيد بن معاوية الذي كان خليفة للمسلمين وأمر أن تنصب له خيمة الشراب فوق الكعبة !
تستمر العجلة في الدوران وتظهر قراءات دينية تهدف الى الثورة على الواقع وتغييره وتواجه بالعنف من النظام , وعنف الجماعة المنبثقة يكون ضد السلطة السياسية القائمة وضد القراءات المخالفة للدين فتحارب على جبهتين وتنعزل , أما السلطة فتتخذ كل الإجراءات لقمع هذه الجماعة ويصبح العنف السياسي معركة بقاء ... عنف لا يجوز معارضته أو الشتكيك في مشروعيته أو التفاوض معه .
إن الخروج من دائرة العنف الجهنمية التي يدور رحاها بين الدين والسياسة لا يكون إلا بالتمييز بين ما هم سياسي ونسبي وبين ما هو ديني ومطلق , فلا تحاول السياسة نفي الدين لمصلحتها ولا يحاول الدين إزاحة النظام السياسي لمصلحته , وأن تكون أدوات الإختلاف والصراع أدوات سلمية وشفافة ... وهذا لا يتم إلا في بيئة ديمقراطية , فعن أي ديمقراطية نتحدث ؟
الديمقراطية وديكتاتورية الأغلبية
الديمقراطية ... مصطلح ادركته لعنة الأسلمة فضاعت ملامحه , فلم تعد الديمقراطية المضادة للديكتاتورية منتوج العقل العلمي لكي ينظم الحياة السياسية , فكما أنتج العقل الديني مسوخأ كالسياسة الإسلامية والإقتصاد الإسلامي أنتج الديمقراطية الإسلامية ... ولا أدري كيف تكون أسلمة الديمقراطية على غرار أسلمة الإقتصاد ... هل هناك إقتصاد مسلم وكافر ؟ هل هناك ديمقراطية مسلمة وكافرة ؟
الديمقراطية تعني حكم الشعب , بمعنى أن الشعب هو الذي يحكم نفسه وهو الذي يختار السلطة ويحدد صلاحياتها ويمنحها الشرعية أو ينزعها عنها , ولكن حكم الأغلبية ليس مطلقاً ... بل له حدود هي حقوق الأقليات والأفراد , بمعنى أن الأغلبية في ظل الديمقراطية لا يحق لها أن تنتهك حقوق الأقليات والأفراد وهي ثقافة قبل أن تكون دستوراً وقانوناً ... وهنا سؤال : لماذا تقف الأغلبية عند حدود الأقليات ؟ لماذا نمنع الأغلبية عن تطبيق ما تريده ؟
الجواب : لأن الديمقراطية تمنح الأقلية الحق في أن يتحولوا الى أغلبية ... ولنضرب مثالاً , غالبية مسيحية قررت قتل أي أقلية مسلمة فور ظهورها , هل هناك أمل لهذا المجتمع أن يصبح غالبيته مسلمون ؟ الإجابة : لا
تبني الأغلبية لفكرة ما لا يعني أن هذه الفكرة صحيحة أو صائبة , ولو تم إنتهاك حقوق أي أقلية خالفت الأغلبية لإستحال التغيير ... ولكن الأقلية حين يكون لديها الحق أن تعبر عن أفكارها وتحشد لها وأن تتحول ال أغلبية في المستقبل عندها فقط تكون هذه البيئة بيئة ديمقراطية , حيث تحارب الفكرة بالفكرة لا بالقمع ... ويكون الفيصل هو المجتمع لا الحاكم أو رجل الدين . ولكن تظهر الإنتهازية الإسلامية بأبشع صورها في مصطلح ديمقراطية إسلامية , بمعنى أنك حر طالما أنك لا تخالف الغالبية المسلمة ! هل هناك ديمقراطية مسيحية ؟ ديمقراطية يهودية ؟ ديمقراطية ملحدة ؟ أم أن الديمقراطية صفة للفضاء السياسي وشرط تحقيقها هو العلمانية والحياد تجاه الدين وعدم الإنحياز الديني في السياسة ؟
لهذا السبب سيقف الإسلاموي ضد الديمقراطية الليبرالية بكل ما أوتي من قوة , لأن فكرهم مستند على القوة والبطش ... والسؤال الذي يؤرقهم بصفتهم أوصياء على المجتمع : كم من الشعب سيقى كما هو إن أصبح حراً ؟ إن الإسلاموي لن يتنازل عن الدين الذي يضبط الجماعة ويبرر ويشرعن التنكيل بالأفراد , فتصبح الجماعة رقيبة على نفسها منقادة مستسلمة للخطاب العاطفي الديني ... لذا لا مجال لحرية دينية تضعف نفوذ رجل الدين الذي يمنح الشرعية لرجل السياسة .
فالإسلاموي يطالب بأن تكون للأقلية المسلمة كل الحقوق التي تحفظها الديمقراطية الليبرالية ويمنعها للأقليات في مجتمعه المسلم ويتملك الوقاحة والجرأة ليصف نفسه بالديمقراطي ويؤصل للديمقراطية في الدين إسترضاءاً للعقلية الدينية وهي السلم نحو السلطة
إن العلمانية ليست موقفاً ضد الدين , بل هي النسبية ... هي الحكم على النسبي بما هو نسبي وعلى المطلق بما هو مطلق , السياسة العلمانية هي التي تمنع إستغلال العواطف الدينية لتمرير الأجندة السياسية , العلمانية ليست ديناً جديداً وليست إستبدالاً لدكتاتورية الدين بدكتاتورية البشر ... هي نزع القداسة عن السياسي ونسبة خطابه وقراراته اليه لا الى الإله , هي محاولة لخلخلة ثالوث الحقيقة والتقديس والعنف في مجتمعاتنا . فالمجتمع يجتمع على حقيقة (فكرة يتفقون عليها) وتقديسهم لهذه الحقيقة يبرر ويشرعن العنف تجاه المجتمعات الأخرى والأفراد الذين يخالفون الغالبية بخصوص هذه الحقيقة .
العلمانية هي إعتراف بنسبية الإنسان وأن إمتلاك الحقيقة المطلقة مجرد وهم , أن تقديس الغالبية لفكرة ما لا يبرر محاولتهم فرض هذه الفكرة علي أو إرغامي عل تقديسها أو ممارسة العنف ضدي بإسم فكرتهم المقدسة , أن إختلافي معهم حول هذه الفكرة لا يمنع أن أكون عضواً فعالاً ذا دور إيجابي في المجتمع ولا يحرمني حقي في التعبير عن أفكاري والحشد لها .
اهدي هذا المقال الى الأصوليين الجدد في السودان الذين يطرحون طرحاً إسلامياً سياسياً جديداً فيه أن النصوص الدينية ليست ضد الدولة الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان مستغلين العقل الديني الذي تحركه العاطفة الدينية , لهم أقول : إن حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية وليست الديمقراطية المسخ التي تروجون لها ليست منتوجاً دينياً أو حكراً على دين ولا يستطيع رجل دين أن يمنحها أو أن ينزعها . ان طاعة الإله والإنقياد له ليست شأناً سلطوياً أو وظيفة حكومية , إن الدولة قد بناها الإنسان وسيحكمها الإنسان لمصلحة الإنسان .

No comments:

Post a Comment