Tuesday, May 31, 2016

أزمة العلمانية في السودان

اهداء الى روح الباحث المفكر محمد اركون
تعلمت منك أنه يجب أن نعلم من أين أتينا لنعرف الى أين سنذهب
لماذا لم نصل بعد الى السودان العلماني الذي نسعى اليه ؟ أحزاب علمانية وكتاب ومفكرون وصالونات ثقافية وحتى الآن لم تجد العلمانية موطيء قدم في السودان ... سؤال يستحق أن نقف عنده طويلا , لماذا بعد كل هذه السنوات ورغم مجهودات جبارة من عدد لا يستهان به من المفكرين والمستنيرين فشلت محاولات علمنة السودان ؟ هذا السؤال سأحاول بقامتي الضئيلة وقلمي المتواضع أن أجيب عنه في السطور القادمة
ان العلمانية في السودان كانت وما زالت في وجهة نظري في موقف ردة الفعل , بمعنى أن العلمانية ليست لها اقدام تقف عليها في السودان ... بل هي علمانية لينة تقوم على إنتقاد الإسلام السياسي وكشف عيوبه , وهذه الإنتقادات في الغالب لا تؤدي الى تأثير يذكر لأن الحكم بإسم الإله يأتي مع خاصية فريدة وهي (الحصانة الإلهية) , بمعنى أن الإسلامي ينسب كل مواقفه وقراراته الى الإله ... والإله لا يمكن أن يتهم بأنه مخطيء أو صاحب مشروع فاشل , وتنجر هذه الحصانة أو القداسة تلقائيا على رجالات الإسلام السياسي , فتكون معارضتهم معارضة لله ويكون النقاش ليس حول مصلحة الشعب بل حول من سيحكم حقيقة بإسم الإله من بين الكفار والزنادقة والمهرطقين ومن يفوز بالحق الإلهي للحكم ولا يجوز للمواطن أن يعترض على الإله أو على من يحكمون بحكمه وتسقط البلاد في ظل ديكتاتورية مقدسة لا تسقط الا بإنقلاب عسكري
عندما يرفع العلمانيون شعاراتهم بأن الدولة صنعها الإنسان وأن لها اهدافا إنسانية يرد رجالات الإسلام السياسي أن كل هذه الأهداف الإنسانية متحققة في الدولة الدينية بالإضافة الى المكاسب الأخروية . في رواية عزازيل للكاتب والروائي يوسف زيدان حوار بين الراهبين هيبا وكيرلس , يقول كيرلس لهيبا معلقا على ابقراط وهيروفليس وجالينوس : كلهم وثنيون , لم يستطع واحد منهم ان يبريء المجذوم أو الأبرص أو أن يحيي بلمسة منه إنسانا قد مات ! إن ربنا يسوع المسيح هو بحر الطب فتعلم منه ومن سير القديسين والشهداء , وإغترف البركات بيد تقواك وإخلاصك .
ثم يقرر كيرلس أن يرسل هيبا الى منطقة بها اناس فروا من الكنيسة ومن يشتغلون بعلوم لا نفع لها ... فيسأل هيبا عن العلوم التي لا نفع لها فيجيب كيرلس : هي ايها الراهب خزعبلات المهرطقين وأوهام المشتغلين بالفلك والرياضيات والسحر , فإعرف ذلك وإبتعد عنه لتقترب من سبل الرب وطرق الخلاص , إن كنت تريد تاريخا فعليك بالتوراة وسفر الملوك , أو تريد بلاغة فعليك بسفر الأنبياء , أو تريد شعرا فعليك بالمزامير , وإن اردت الفلك والقانون والأخلاق فإليك قانون الرب لمجيد , لعلك تحظى بنظرة عناية من ربنا المسيح الحي .
إن الحوار السابق بين هيبا وكيرلس من رواية عزازيل يمثل حجر أساس في أزمة العلمنة السودانية , إن الإسلام السياسي دائما يضع العلماني في مواجهة مع الإله ... قانون وضعي ضد قانون سماوي أو شريعة اسلامية على سبيل المثال , ودائما تكسب كلمة إسلامي طرحهم قداسة وهيبة , فقانونهم إسلامي وإقتصادهم إسلامي وهكذا دواليك ... وجزء من حصانة جماعات الإسلام السياسي هو أن طرحهم لا يقتصر على المصلحة الدنيوية كما العلمانيين ... بل يصلون الى درجة تغيير مفهوم المصلحة الوطنية أو مصلحة المواطن , فلا بأس أن تكون في دولة مدمرة إقتصاديا يشتعل فيها أتون الحرب أهلية , لا تحفظ لك حقا ولا تقيم لك وزنا , لا تقدم لك تعليما أو علاجا أو أي خدمة كانت طالما أن هناك قانون نظام عام ومحاكمات ردة وقانون يبيح لك ارتكاب جرائم شرف . وهذه القناعات تؤسس لها جماعات الإسلام السياسي بسيطرتهم على عدة مجالات أهمها التعليم والإعلام ليجندوا ويحشدوا ثم إذا إستتب لهم الأمر سيطروا على كافة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية راقبوا الصحف وحاربوا كل جماعة أو حزب يخالف منهجهم وحاكموا بحد الردة وإزدراء الأديان حتى يضمنوا أن لا ينمو أي تيار ضده ويقتلوا كل فكرة في مهدها ما إستطاعوا .
إذن ... في هذا المشهد الحالك السواد , ما هو المخرج امام العلمانية والعلمانيين ؟
إن نقطة البداية يمكن تلخيصها في نقطة واحدة وهي الأنسنة , إن أي فكر إن لم يكن الإنسان نصب عينيه وكان يهدف الى إسعاد الإنسان وإبعاد شبح البؤس والفقر والمعاناة عنه كان فكرا ضارا هداما ولا فائدة ترجى منه , لذا تعمد بعض جماعات الإسلام السياسي الى إنتاج مفهوم سعادة إنسانية خاص بها أو تبرير إتعاس الإنسان وإذلاله بحجة إسعاد الإله وإعزازه , فإذا كانت الأنسنة هي احترام وتقديس الإنسان لإنسانيته فإن الإنسنة لن تجد لها مكاناً في عالمنا العربي والإسلامي الغارق في الأصولية والماضوية ... فمجتمعاتنا قائمة على تهميش الإنسان والحط من قدره والتعامل معه على أنه ليس هدفاً بل مجرد وسيلة , وإلا فما الذي يجعل شعارا مثل (الموت في سبيل الله أغلى أمانينا) الذي رفعه الإخوان المسلمون في مصر ينتشر إلا لأنه نشأ في ثقافة تقدس الموت وتهمش الحياة ؟ وأي موت في سبيل الله بين ابناء الوطن الواحد ؟ ويتجلى ذلك واضحاً في المجتمع السوداني بعد أكثر من ربع قرن من حكم الإسلاميين ... فلا يمكن لمجتمع يردد شبابه شعار (فليعد للدين مجده أو ترق منا الدماء , أو ترق منهم دماء , أو ترق كل الدماء) أن يقدس الإنسان أو الحياة ... إن العلمانية تقوم على أساس الإهتمام بالشأن الدنيوي وإحترام البشر وسواسيتهم على أساس الإنسانية , ومحال أن تنتشر العلمانية أو أي فكر ذو نزعة إنسانية في مجتمع يدعو لمحاربة الآخر تحت مسمى الجهاد والإستشهاد أو تسفيه الدنيا وتهميشها على حساب الآخرة .
والنزعة الإنسانية يتهددها خطران : التعصب القومي أو العرقي و التعصب الديني , وهنا أنا لست ضد الإعتزاز بالدين أو العرق ولكنني ضد التعصب ... التعصب الذي يتجاوز الإعتزاز بالنفس الى إزدراء الآخر وإقصاءه , فلا يمكن أن نجد ظلماً فئوياً على اقلية عرقية أو دينية في ظل نزعة إنسانية هدفها الإنسان على إختلاف الأعراق والأديان .
نعود الى الاسئلة التي بدأنا بها , لماذا لم نصل بعد الى السودان العلماني الذي نصبو اليه ؟ وإذا كانت العلمانية هي الإهتمام بالشأن الدنيوي والإنسان بدون تمييز ديني , فكيف نؤسس للعلمانية والأنسنة في السودان ؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد أن نعود الى التاريخ الإنساني فيما يخص الأنسنة , فالعلمانية التي تنسب الى عصر التنوير الأوروبي قامت على أساس القطيعة الكاملة بين العقل والدين , بمعنى أن العقل بشكل مستقل وبدون وصاية من الدين سيفكر بما فيه مصلحة الإنسان , أما ما يسميه أركون عصر التنوير الإسلامي أو العصر الإسلامي الذهبي وخصوصا القرن الثالث والرابع فقد تميزت تلك الفترة بإنتشار العلوم الدنيوية وإزدهار العلوم العقلية في مواجهة العلوم النقلية , وتمثل ذلك في الإنفتاح والتأثر بالفلسفة الإغريقية ولذلك أمثلة كثيرة منها التوحيدي ومسكويه وإنتهى ذلك العصر بوفاة إبن رشد ... والباحث المفكر أركون ينسب حدوث هذا العصر الذهبي الى عدة عوامل , منها إزدهار التجارة الذي أدى الى ظهور طبقة راقية إحتضنت تلك العلوم , كما أن نشاط حركة التجارة أدى الى رحلات وأسفار ساهمت في الإنفتاح على مختلف الحضارات ... ولكن يختلف العصر الإسلامي الذهبي عن التنوير الأوروبي في أن علماؤه وفلاسفته حاولوا التأسيس للأنسنة من داخل الدين أو إحداث تزاوج بين الدين الإسلامي والفلسفة الإغريقية , ولكن في النهاية كانت الغلبة للفكر الأصولي والعقل السلفي الماضوي الذي تعامل مع الفلسفة على أنها علم دخيل يراد به هدم الإسلام ... ويظهر ذلك في الغزالي وإبن تيمية اللذان كفرا الفلاسفة ومرورا بإبن كثير الذي لعن الفلاسفة ونسب اليهم الجهل وإنتهاء بمقولات مشهورة لمن نسميهم علماء مسلمين مثل : من تمنطق فقد تزندق .
إن تاريخ الحرب بين الدين والفلسفة والعقل النقلي والنقدي طويل جدا , هو أكبر من أن أحصره في هذا المقال ... سواء ما حدث للفلاسفة من تكفير مرورا بمحاربة المعتزلة وإنتهاءاً بالمالكية الذين كانوا يبصقون على إبن رشد حين كان يأتي للصلاة في المسجد ولا تزال مؤلفاته ممنوعة من التدريس ولا يزال يكفر ويزندق حتى يومنا هذا ... إن من التجليات الرائعة لمحمد أركون هو ما كتبه عن علم (سيسولوجيا النجاح والفشل) , بمعنى أن ندرس العوامل التي تجعل فكرة تنجح وتقبل في مجتمع ما وترفض في مجتمع آخر ... ما الذي يجعل فكر إبن رشود المحظور في الشرق يتحول الى ما يسمى التيار الرشدي في الغرب ؟
كيف نستفيد من ما سبق في توطين العلمانية في السودان ؟
في موقع يوتيوب وجدت مقطع فيديو لمن يسمى بأبي إسحق الحويني وهو يتكلم عن الأزمة الإقتصادية في الدول الإسلامية , وأخرج من جعبته أن الأمة الإسلامية حين توقفت عن غزو الكفار إفتقرت ! فلو كنا نغزو الكفار مرة أو مرتين كل عام ونأتي بالعبيد والسبايا ونبيعهم في سوق النخاسة لما أصابنا الفقر !!!
المصيبة ليست في أن الحويني حول المسلمين بكلمته هذه الى أناس يعيشون على الإستعباد , ولا أنه تجاوز النهضة الإقتصادية التي تعيشها دول لا رق فيها ولا عبودية , ولا أنه ضرب بعلم الإقتصاد وعلماءه وكلياته وكتبه ومؤلفاته ونظرياته عرض الحائط ... المصيبة والكارثة أن مثل هذا الهراء يجد أعداداً كبيرة بين ظهرانينا من يستمعون إليه ويصدقونه ويحلمون بتطبيقه ...
إن العلماني في السودان يتجاوز حقيقة التجهيل المؤسس والممنهج الذي مورس على الشعب السوداني طوال أكثر من ربع قرن , يتناسى أن رجال الدين بعد ما قتلوا فكر إبن رشد وأسسوا لعصر الإنحطاط وخنقوا الفلسفة بإسم الدين التفتوا الى كل العلوم الدنيوية وجعلوها خاضعة للدين تابعة له ... فلا يمكن للعلماني أن يدعوا الى منهج أو طريقة علمية محايدة تجاه كل الأديان والإسلاموي قد أسس لعلم ديني يقف وجه لوجه ضد علم دنيوي , لا يمكن للعلماني أن يجهر بقول بشري والإسلاموي قد أسس لقول إلهي لا يحق لأحد معارضته أو مخالفته , لا يمكن للعلماني أن يحارب الإسلاموي بإسم الإنسانية والإسلاموي يحاربه بإسم الإله .
إن الأحزاب العلمانية في السودان تريد أن تبدأ من النهاية , إن الأحزاب العلمانية لن تنشأ إلا في مجتمع علماني ... إن أصوات العلمانيين تتضاءل الى حد العدم في ظل تعليم وإعلام وقانون وثقافة مجتمع تبجل الإسلام السياسي وتعيد إنتاجه , إن العلمانية قبل أن تكون احزابا سياسية لا بد أن تكون حراكا فكريا وأدبيا وثقافيا وجتمعيا ... إن نشر العلوم الدنيوية بشكل مستقل ومحايد تجاه كل الأديان يتطلب أن تعود للعقل مكانته وإستقلاليته , لا بد أن يتم التأسيس للأنسنة من خارج الدين ... لأن إعمال العقل والتفكير والتعبير عن الرأي ليس حكراً على المسلم , وكذلك تعلم وتطوير العلوم الإنسانية كالسياسة والإقتصاد وعلم الإجتماع ليس حكراً على المسلمين .
إن العلمانية لا بد أن تكون في القصيدة والمقالة والمسرحية والمحاضرة والندوة قبل أن تكون في الحزب السياسي , مأسآة الأحزاب العلمانية في السودان انها لا تستطيع التأسيس للعلمانية بدون مناقشة الدين والسلطوية الدينية , ومناقشة الدين والسلطوية الدينية وإنتاج فهم جديد للدين وتفسير آخر للنصوص المقدسة يحول الحزب من حزب علماني الى حزب ديني جديد أو حزب يحاول أن يؤسس للعلمانية من داخل النص الديني وهذه محاولة محكم عليها بالفشل وستلقى نفس المصير الذي لقيه فكر إبن رشد .
إذن , ما الحل ؟!
الحل كما يلي : إذا كانت الأحزاب السياسية تسعى الى إثبات وجودها وسط النقابات بصفتها كيانات مطلبية وشرائح لا بد أن تسعى لإحتواءها فإن هذه الأحزاب ذاتها تنسى أهم شريحة تمثل الغالبية , هذه الشريحة هي عامة المواطنين والسواد الأعظم من الشعب ... والوصول الى هؤلاء لا يتم عن طريق المطالب بل عن طريق الثقافة , بمعنى ان السودان يحتاج الى المثقف العلماني قبل السياسي العلماني ... لأنه بدون هذا لن يكون ذاك , لا بد للمثقف أن يدرس علم الأديان المقارن ويناقش الدين والسلطوية الدينية ويؤسس للسياسية كعلم مستقل قبل أن يؤسس السياسي حزباً علمانياً
وإذا كان فلاسفة التنوير قد وقفوا في وجه محاكم التفتيش الكنسية وقتلها الفلاسفة والمفكرين وإحراق مؤلفاتهم , إننا مطالبون بوقفة مماثلة أمام القتل بحد الردة والمحاكمة بتهمة إزرداء الدين وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة ... لا سبيل لمواجهة العقل النقلي الا بالعقل النقدي , لا سبيل للوصول الى مجتمع حر الا بالفكر الحر ... الفكر المفتوح أمام التاريخ البشري ككل , المشرع على كل العلوم ... المتاح للجميع على إختلاف أديانهم وثقافاتهم ... عندما نصل الى التعددية الثقافية وتحطم كل القيود على العقل , عندها وعندها فقط سنصل الى المجتمع الحر ذو النزعة الإنسانية . إن الثقافة في السودان لا بد أن تخرج من صفويتها وتتخلى عن لغتها المعقدة المتعالية لتصل الى عموم الناس ... إن العقل لا بد أن يقف مطالباً بحقه في التفكير الحر دون وصاية ... لا بد أن يحاكم العقل الدين كما يحاكم الدين العقل … فلم يعد من المجدي أن يستجدي العقل الدين , حتى زمان قريب قال الدين أن الأرض لا تدور ... وكان آخر من قال بهذا هو إبن باز وإستدل بآيات من القرآن , ولكن العقل عندما فكر وبحث بمعزل عن الدين إكتشف وأثبت أن الأرض تدور … فراجع الدين نفسه وتخلى عن موقفه
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه : مهزلة العقل البشري . عن طبيعة المدنية : كان المفكرون الطوبائيون، ولا يزالون، يمدحون التعاون والتآخي واتفاق الكلمة. وامتلأت مواعظهم بذلك امتلاءا عجيباً. وهم قد اجمعوا على هذا الرأي بحيث لم يشذ فيه منهم أحد إلا في النادر.
ونحن لا ننكر صحة هذا الرأي الذي يقولون به. فاتفاق الكلمة قوة للجماعة بلا ريب. ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ما للاتفاق من اضرار بالمجتمع البشري في الوقت ذاته.
ان المجتمع البشري لا يستطيع ان يعيش بالاتفاق وحده. فلا بد ان يكون فيه شيء من التنازع أيضاً لكي يتحرك الى الامام.
والقدماء حين ركزوا انتباههم على الاتفاق وحده، انما نظروا الى الحقيقة من وجهة واحدة وأهملوا الوجه الآخر. فهم بعبارة أخرى : قد أدركوا نصف الحقيقة. اما النصف الاخر منها فبقى مكتوما لا يجرأ أحد على بحثه.
ان الاتفاق يبعث التماسك في المجتمع، ولكنه يبعث فيه الجمود أيضاً. فاتحاد الافراد يخلق منهم قوة لا يستهان بها تجاه الجماعات الاخرى. وهو في عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف للظروف المستجدة.
وقد أثبتت الابحاث الاجتماعية ان المجتمعات البدائية التي تؤمن بتقاليد الآباء والاجداد ايمانا قاطعا فلا تتحول عنها تبقى في ركود وهدوء ولا تستطيع ان تخطو الى الامام إلا قليلاً.
وقد نجد في هذه المجتمعات الراكدة تنازعا عنيفا، هذا ولكن تنازعها قائم على اساس شخصي لا يمس التقاليد بشيء. كلهم مجمعون على التمسك بها لا يخرجون عنها قيد أنملة. وكثرا ما يكون تنازعهم ناشئا عن تنافسهم في القيام بتلك التقاليد ومحاولة كل منهم ان يتفوق على أقرانه فيها.
ان التنازع الذي يؤدي الى الحركة والتطور يجب ان يقوم على أساس مبدأي لا شخصي. فالمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على جبهتين متضادتين على الاقل، حيث تدعو كل جبهة الى نوع من المبادىء مخالف لما تدعو اليه الجبهة الاخرى. وبهذا تنكسر"كعكة التقاليد" على حد تعبير بيجهوت. ويأخذ المجتمع اذ ذاك بالتحرك الى الامام.
اذا رأيت تنازعا بين جبهتين متضادتين في مجتمع، فاعلم ان هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما. إنتهى كلامه
أين نحن من هذا الكلام ؟ اين نحن ومناهجنا الدراسية تقتل الإبداع وتمنع النقد وتكرس للسمع والطاعة العمياء ووهم إمتلاك الحقيقة المطلقة ؟ أين نحن و مثقفونا يستجدون رجال الدين أو ينفون عن أنفسهم تهمة تبني الفكر الدخيل ويتناسون أن الفكر الإنساني لا دين له ولا جنسية ولا تحده إلا حدود الإنسان ؟
إن الإختلاف هو طريق التطور والتغيير وهو ضرورة لا مفر ولا مهرب منها , لذا قبل أن نتناقش على ماذا سنختلف فلنحدد كيف سنختلف وما هي حدود حريتنا في الإختلاف , إن المجتمعات المتحضرة حقاً والتي تملك فرصة حقيقة للعيش بسلام ليست التي تمارس القمع بإسم الحقيقة المطلقة ... بل التي تتطبق (أنسنة العدو) المصطلح الذي اتى به محمود درويش فأقاموا الدنيا عليه وما اقعدوها
إن التعصب الديني الذي يجعل من يخالفك حتى ولو لم يسبب لك ضررا عدوا لك , فينزع عنه إنسانيته ويعطيك الحق في قمعه ومحاكمته وقتله ... بينما لو إنقلبت الآية وكنت أنت في مكانه كأقلية مثلا لأعطيت نفسك كل هذه الحقوق وأكثر ولما رضيت أن يفعل بك ما ستفعله به , ولكنها النرجسية التي يولدها التعصب الديني ... النرجسية التي تبرر ممارسات الدولة الدينية مع الأقليات الدينية والفكرية والثقافية بإسم الإله .
إن الجسور التي تربط بين المختلفين دينيا هي الفكر والمصلحة المشتركة وليس الدين , إن العلمانية ليست غاية أو ردة فعل ضد الدين , بل هي الحاضنة الوحيدة التي يمكن أن تنمو فيها الأفكار ذات النزعة الإنسانية ونتساوى فيها على أساس الإنسانية . لن نصل الى العلمانية الا عن طريق الأنسنة ... ولن نؤسس للأنسنة إلا إذا عاد للعقل دوره وللإنسان مكانته كإنسان التي لا يمكن نزعها عنه سواء بإسم الدين أو بأي مسمى آخر , ولكي يعود للعقل دوره لا بد من أن تنهض العلوم الإنسانية بشكل مستقل عن الدين وأن نعي أن حرية الفكر والتعبير حق مكفول للجميع وأن الأفكار القوية هي التي ترحب بالنقد … وهذا لن يتأتى في ظل الموقف الإبتزازي الذي نرزح تحته , وأعني بالموقف الإبتزازي الموقف الذي يرهن حقوق الآخر بالخضوع لفكرك وقناعاتك وإلا … وآه من إلا وما يأتي بعدها
حين يقول لك كافر إن المتوازيين لا يتقاطعان ابداً وتجيبه بكلمة : كافر ! فإن التكفير لا يعني انك على صواب أو أنه على خطأ … ويتحول النقاش من منطقي أو رياضي الى ديني , هذا ما يحدث حين يكون الدين هوية ثقافية وثوابت علمية والويل والثبور لمن إنتقدها أو حاول الخروج عليها ! لإنت لا تملك نفسك … بل أنت ملك لله ونحن سنراقبك لنتأكد من طاعتك لله !!!
وأكبر مثال على ذلك الموقف الديني المتعنت حتى الآن في بعض البلدان والى زمن قريب في بلدان آخرى من موضوع زراعة الأعضاء , عندما قال الدين أو بالأحرى رجالاته وطبقة الكهنة الحاكمة إن الدين ضد زراعة الأعضاء لأنها ملك لله وأن الدين يرى أن يتعفن العضو ويتحول الى تراب خير من ان يستفاد منه في تخفيف معاناة إنسان آخر … سبب الدين أو رجالاته وطبقة الكهنة الحاكمة مآسي ومعاناة لا حصر لها
لم يكن مسموحا للعقل النقدي أن يحاجج الدين أو أن يطالبه بأن يكون عقلانيا أو ذا نزعة إنسانية , وكانت النتيجة اعضاء مهدورة ومرضى يعانون بإسم الإله
الترابي أفتى بحد الردة وكذلك الغزالي , وكلاهما تراجع عن فتواه … بعد أن قتلت تلك الفتاوى محمود محمد طه وفرج فودة , لم يكن مسموحا للعقل النقدي أن يحاجج الدين أو أن يطالبه بأن يكون عقلانيا أو ذا نزعة إنسانية ويكفل لفرج ومحمود حق الحياة والتفكير والتعبير وأن كلاهما حر مالم يضر , وكانت النتيجة أن قتلا بإسم الإله
عندما نحتنض الإختلاف ونجيد التعامل معه ويكون ظاهرة صحية ودافعا للتطور والحراك الى الأمام ... عندما يكون الحق في التفكير والتعبير مكفولا للجميع ... عندما تكون الإنسانية هي ما يجمعنا جميعا ... عندها فقط ستتنزل العلمانية وتتحقق الأنسنة .

No comments:

Post a Comment